الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه هو المثل الأعلى في مجال رحمة الخلق، فينبغي أن تكون نظرتنا إلى من ندعوهم إلى الإسلام نظرة الرحمة العامة، نظرة الرحمة والشفقة لا نظرة الاستعلاء أو التكبر أو التشفي أو غير ذلك، بل إذا تأملنا القرآن الكريم فسنجد أنه قد بلغ من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته -أمة الدعوة وتشمل الكفار أيضاً -وصل حزنه وشفقته عليهم ونصيحته لهم إلى أنه كاد أن يهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] أي: مهلك نفسك.
{عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أنت تهلك نفسك أسفاً عليهم، وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، فالداعية إلى الله المقتدي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يرحم الناس ويهتم بهم، لكن لا ينبغي أن تصل به هذه الرحمة وهذا الاهتمام إلى حد الأسى وتعذيب النفس وإرهاقها، لكن يعزي نفسه بأن الهداية بيد الله عز وجل، وما على الداعي إلا البلاغ المبين، ورسول الله عليه الصلاة والسلام الذي بعث رحمة للعالمين بالرغم مما كان يعانيه في سبيل الله من المشقة والجهد والتحدي، لما طُلِبَ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين أن يهلكهم الله وأن ينزل عليهم بأسه وعقابه، ماذا كان جوابه عليه الصلاة والسلام؟ يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، -فأخذ يردهن بيده وهن يتقحمن في النار، وأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون من يدي) رغماً عنه عليه الصلاة والسلام، يعني: كأن هناك ناراً والناس واقفون على شفير هذه النار ويقذفون أنفسهم فيها، وهو رحمة بهم يريد أن ينجيهم، فيمسك ما أمكنه أن يمسك، يمسك هذا من ذيل ثوبه، وهذا من أكمامه فيحاول أن يبعدهم عن النار رحمة بهم ونصيحة لهم، فمن هلك يهلك رغماً عنه، الذي يستطيع أن ينجيه يجتهد في ذلك، لكن ما الحيلة فيمن قضى الله عليهم بالشقاء والعذاب والتعاسة؟! إذاً: المسلم هو رحمة ورأفة وعطف وتواضع، وليس أبداً بحال من الأحوال هذا الوضع للمسلم هو عنوان الاستكانة أو الذل أو الضعف، لكن هذه الرحمة هي الرحمة التي هي طبع الأقوياء الأعزاء بالله وبدين الله تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
فإن قيل: وصف الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه بأنهم أشداء على الكفار غلاظ عليهم، هل يتنافى هذا مع الرحمة؟ ف
صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية يفسرها قوله تبارك وتعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:7 - 9].
هذه الآيات توضح لنا أن من أبدى عداء للمسلمين وأضمر شراً لهم، فلابد أن يكون المسلمون أشداء عليهم جزاءً وفاقاً، فهذا هو المقصود بقوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، وبقوله عز وجل: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9]، فالكفار الذين أمرنا أن نكون أشداء عليهم هم من جاءت صفاتهم في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:9]، مقاتلة المسلمين، فتنتهم عن دينهم، الاعتداء على المسلمين في ديارهم وإخراجهم منها، كذلك مظاهرة هؤلاء ومساعدتهم، أي: من لم يفعل بنفسه هذه الأشياء من الكفار لكنه عاون الكفار الآخرين وساعدهم على فعل هذه الجرائم فهو أيضاً له حكمهم.
ثم إن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، فالطبيب الذي يأتيه المريض الذي حصلت به مثلاً الغرغرينة، إذا تركه ولم يبتر هذا العضو الميت من بدنه فسوف يزحف هذا المرض على بدنه ويتلفه كله، فتضيع حياته، فمن الرحمة بهذا المريض بتر هذا العضو الميت وفصله عن جسده، حتى ينقذ باقي الجسد، فكذلك أيضاً مشرط الجراح حينما يعمل في جسم الإنسان من أجل إنقاذه من خطر أكبر، فهذا في الحقيقة ظاهره أنه مؤلم، لكن هو في الحقيقة سبب إلى العافية وسبب إلى الرحمة، فالشدة لا تتنافى مع الرحمة، والأب الرحيم المحب لأولاده قد يشتد عليهم، لا يشتد من منطلق أنه يريد أن يقضي عليهم أو يغلظ عليهم، لكن يشتد ويتحكم في أبوته وعاطفته التي تدعوه إلى عدم الشدة، ويعمل عقله ويريد مصلحة هذا الولد حتى يقوّم خلقه، وحتى يستفيد من التجارب، وحتى يحسن تربيته وأخلاقه، فإنه ربما يحتاج إلى الشدة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في مشكلة ضرب الأولاد.
فالشاهد أن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، كما قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم فهذه الشدة من أجل مصلحة الإنسان نفسه، أما من أبدى تعاطفاً وسلماً من الكفار، أو كان له عهد وذمة، فالمشروع في حقه أن يحسن إليه، علاوة على هذه الرحمة، ولعل هذا ما أشار إليه قوله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8]، وكما قال عز وجل: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61] فهذا فيما يتعلق بالمظهر الأول من مظاهر تسامح الإسلام مع الناس كافة، وهو مشروعية الرحمة العامة، وهي التي يحتاج إليها كثير من الناس، مثلاً: الطبيب إذا وجد مريضاً من الكفار يحتاج إلى مساعدته أو إنقاذه، ما لم يكن هذا الرجل حربياً معادياً للإسلام في وقت من الأوقات التي ذكرناها آنفاً؛ فإنه يرحم بالرحمة العامة، ولا يتحرج الطبيب المسلم من معالجته من باب أنه ذو كبد رطبة، وأنه مخلوق فيه روح، وهذه حرمة تجعل له حقاً أو نصيباً في الرحمة العامة ما لم يكن محارباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.