من أجمل الأشياء في التربية الإسلامية: أن هذه الأمور تدخل في حيز العبادة، أي: أن المنهج التربوي الإسلامي عبادة، وليس مجرد منهج فكري نظري أو منحنى من المناحي، بل هي عبادة، والإنسان مطالب بأدائها على أكمل وجه كما سنبين ذلك من القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول ابن خلدون رحمه الله تعالى في مقدمته: فصل في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، وذلك أن إرهاق الجسد في التعليم مضر بالتعليم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر، وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له.
هذه الخبرة التربوية الموجودة في كتابات المؤلفين من المسلمين، تعكس تؤثرهم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، وخبرتهم ودرايتهم بالأساليب التربوية الملائمة في التعامل مع المتعلمين.
وهذا أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى يقول في وظائف المعلم: أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ.
وهذا مأخوذ من السنة النبوية الشريفة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يواجه أحداً في وجهه بالنقد المباشر، إنما كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!)، دون أن يحرج الذي فعل هذا الشيء، فهذه من الأساليب التربوية الرائعة، وهي التعريض؛ لأن التوبيخ المباشر يهتك حجاب الهيبة، ولن تبقى هناك هيبة بين المربي وبين الطالب أو الابن، ومتى هتك حجاب الهيبة فسيكون الأثر في المرة الأولى فقط، وبعد ذلك يصبح الولد مثلاً يدخن، وانتهى الموضوع بمرور الصدمة الأولى، ثم يتطور الأمر، ويصبح التدخين أمام أبيه أو نحو ذلك من هذه السلوكيات أمراً عادياً، فدائماً ما أمكن الوصول إليه عن طريق التعريض وعدم التصريح والمواجهة المباشرة كلما كان أفضل وأعون للابن على عدم العناد، وبالذات المراهق؛ لأن المراهق لابد من الحساسية الشديدة في التعامل معه، وأقرب طريق هو الإقناع والحوار، مع الحب والحزم والعطف، فالإقناع والحوار ضروري، ولا تلغي شخصيته، ولا تعامله دائماً على أنه هو الطفل الذي كان بالأمس، لا، هو الآن في مرحلة يريد أن يحقق ذاته، ويعترف له بالرجولة، ولو كانت فتاة فيعترف بأنها صارت ناضجة ولم تعد طفلة، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة، وتواكب المعاملة التغيرات التي تحصل فيه؛ لأنه سينمو غصباً عنك، وسيظل ينمو نفسياً واجتماعياً وعقلياً شئت أم أبيت، فبالتالي لابد أن تتغير المعاملة حتى لا تحصل عواقب غير حميدة.
إذاً: الغزالي يرى أن من وظائف ودقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ؛ لأن التوبيخ المستمر والنقد اللاذع الذي لا يتوقف على كل سلوك وكل تصرف يرشح الصغير بعد ذلك بكثير من الأمراض النفسية الخطيرة، والتي تنشأ غالباً بسبب عائلة نقادة، كل تصرف منه ينتقد ويعلق عليه، ويوبخ، ويحقر، فيكون الحصاد: أن تدفع كل الأسرة الثمن، وتحصل أمراض ليست بالهينة.