تفكر في الحياة وقصرها، وأنك زائل منها، فإن ذلك يخشع قلبك، وقد حدثنا القرآن أن الدنيا متاع سريع زوالها، كمثل غيث سقى النبات ثم نما بسرعة، وما بين اخضراره واصفراره أيام قليلة، (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] والمتاع يتمتع به ويزول.
يحدثنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه عن الموت وما بعد الموت، ويحدثنا كيف تقبض روح المؤمن، وروح الفاجر الكافر، كيف يسهل على هذا، ويصعب على هذا، ويحدثنا عن رحلة ما بعد الموت عندما يعرج بالمؤمن إلى السماوات، وتستقبله ملائكة الرحمن، ثم يعاد إلى قبره فتسأله الملائكة عن ربه وعن دينه، وعن نبيه، فيجيب الإجابة الصحيحة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ويحدثنا عن رحلة الكافر وأنه بعد أن تخرج روحه تنبعث منها رائحة منتنة خبيثة، فلا تفتح لها أبواب السماء، ولا تستقبلها ملائكة الرحمن، وتطرح طرحاً، وتلقى إلقاءً {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ويعاد إلى قبره فلا هو في الدنيا كان ثابتاً على الحق، ولا يستطيع في قبره أن يجيب ملائكة الرحمن إجابة صحيحة تنبعث من قلب صادق.
ويتحول القبر كما يخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إلى روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وذلكم هو البرزخ إلى أن يبعث الله الناس عندما يقومون لرب العالمين.
وفي كتاب الله يحدثنا الله عن القيامة وأهوالها، وكيف تدك الأرض، وكيف تنشق السماء، وتكور الشمس، ويخسف القمر، وتتساقط النجوم، وتسجر البحار فتشتعل ناراً، وعندما ينفخ في الصور تبدل الأرض غير الأرض السماوات، وينفخ فيه أخرى فيقوم الناس لرب العالمين.
وفي كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث عن مشاهد العباد في يوم البعث والنشور، عندما تدنو الشمس من رءوس الناس، فلا يكون بينها وبينهم إلا ميل، ويذهب عرق الناس في الأرض سبعين ذراعاً، ليس هناك ظل شجرة، ولا ظل جبل، ولا ظل صخرة، أرض سوية ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض، وليس هناك إلا ظل عرش الرحمن، ولا يستظل بظله إلا الذين أجهدوا أنفسهم في دنياهم بطاعة مولاهم.
ومقدار ذلك اليوم خمسون ألف سنة، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:4 - 18].
ثم تنصب الموازين ويحاسب الناس على أعمالهم وما قدموا، ثم يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، فمن أي الفريقين سنكون؟! هل من السعداء الذين يقال لهم: (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49] أم من الأشقياء الذين يساقون إلى المصير المظلم؟ مصير ليس بعده مصير، ونهاية ليس بعدها نهاية، وخسران لا يماثل خسارة أي صفقة من صفقات الدنيا كصفقة زواج أو صفقة تجارة أو صفقة مال، لا يعادل ذلك شيء، إنه الخسران النهائي الذي لا ربح بعده، خسران يفقد الإنسان فيه نفسه، ويفقد أهله، وليس هو الخسران الذي يؤدي إلى الموت، آلام ساعة ثم تنتهي الآلام {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74].
وسعادة الآخرة هي الجنة التي ليس فيها من الدنيا إلا الأسماء، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
من تأمل هذه النهاية من خلال أقوال ربنا تبارك وتعالى وأقوال المصطفى صلوات الله وسلامه عليه رأى عجباً، عند ذلك يلين القلب، وتخشع النفس، ويزن المسلم الأمور بالعدل، ويضع الأشياء في نصابها؛ فتحيا هذه النفوس، وتحيا هذه القلوب، نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.