فإن أخطر أنواع الفرقة: هي الفرقة في الدين، وليس مرادي بالفرقة أن تفترق الأمة وتتقاتل وهي على عقيدة واحدة، فقد تقاتل الصحابة وهم على عقيدة واحدة ودين واحد، لكن الأخطر من ذلك أن تفترق الأمة في دينها، قال الله: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ومن المعلوم أن اجتماع المسلمين على أساس الإسلام وعلى أساس عقيدة الإسلام هو أعظم أنواع الوحدة، لكن عندما يصبحون أدياناً وفرقاً يكون الخلاف كبيراً، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]، ثم يقول بعد ذلك: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، فأمة واحدة تعبد إلهاً واحداً تمثل تجمعاً واحداً، وماذا حدث للأمم من قبل؟ لقد تقطعوا أمرهم بينهم زبراً، وكيف تقطعوا؟ بأن أصبحت هناك مذاهب وعقائد وملل في الدين الواحد، وفي موضع آخر يقول الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:92 - 93]، فاختلاف العقائد والمذاهب في الأمة يحدث -جزماً- خلافاً بين المسلمين في واقع الأمر، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سيصيبها ما أصاب الأمم من قبلها، فعن معاوية بن أبي سفيان في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو داود والإمام أحمد في مسنده قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة)، زاد في رواية: (وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)، وفي سنن أبي داود وسنن الترمذي وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، وإذا شئت أن تطلع على هذه الفرق فارجع إلى كتب الملل والنحل وكتب الفرق، فقد افترقت الأمة إلى خوارج، وإلى معتزلة، وإلى شيعة، وإلى قدرية، وإلى أشعرية وكلابية وماتريدية، وفرق كثيرة.
ومن أسباب الافتراق في الدين: أن تجمعات من الأمة تبنت مناهج مخالفة للشرع، وأنا قلت من قبل: إن الإسلام منهج، والمطلوب من المسلمين أن يكتشفوا هذا المنهج، لا أن يضعوا مناهج من عند أنفسهم، وهذه قضية خطرة، وأنا أجزم أن كثيراً من المثقفين في هذه الأمة يفتخرون ويقولون: نحن عندنا منهج وأنتم ليس عندكم منهج، نقول: هناك منهج واحد هو منهج الإسلام، منهج ليوم الإنسان، ولشهر الإنسان، ولسنة الإنسان، ولعمر الإنسان، وللأمة الإسلامية بأكملها، فقط نحن مهمتنا أن نكتشف هذا المنهج، فلدينا منهج في العقيدة، ومنهج في التفكير، ومنهج في التصور، ومنهج في السلوك.
الناس مغرمون من قديم الزمان بوضع المناهج، فمن المناهج الخطيرة التي أثرت في تفكير الأمة: المنهج الفلسفي الكلامي في العقيدة والإيمان، وأنا لا أريد أن أفصل في هذا، لكن هذا المنهج زاحم المنهج القرآني الإيماني النبوي في القلوب والنفوس، وفي التفكير، وفي تقرير العقائد.
وهناك المنهج الصوفي الذي يغرق في التعبد، ويستحدث أنماطاً من العبادات لم يشرعها الله تبارك وتعالى، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المنهج بقوله: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن أقواماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم) فبعض الذين ينتسبون إلى الإسلام من العلماء يرفضون الاحتجاج بأصول الشريعة بالكتاب والسنة، ويزعم هؤلاء أن نصوص الكتاب والسنة هي ظواهر وعمومات لا تفيد اليقين، والذي يفيد اليقين عندهم هي الأدلة العقلية فقط، حتى إن بعض الفرق رفضت الاحتجاج بالسنة أصلاً كالمعتزلة، وقالوا: السنة عبارة عن ظن ليس فيها يقين، ولذلك لا يحتجون إلا بالمتواتر، والأحاديث المتواترة التي وصلت إلينا أحاديث قلة، هذا الاختلاف العقائدي القديم أنشأ مذاهب عقائدية جديدة، وأنشأ أهواء بين المسلمين في هذا العصر، فقامت في ديار المسلمين في هذه الأيام دعوات تنادي بالوطنية: أنا أردني، وأنا فلسطيني، وأنا مصري، وأنا كويتي، وأنا وأنا، وأصبحت هذه النعرات الوطنية القومية تُغذَّّّّّّّى، فبدلاً من أن نقول: نحن مسلمون، وننادي بالإسلام وعزة الإسلام، ورابطة وأخوة الإسلام، أصبحت الآن هذه النعرات تغذى في بلاد المسلمين، بل أصبح هناك تجمعات في ديار المسلمين على مذاهب كافرة، كالشيوعية، والعلمانية، والبعثية، وأخذ الضالون ينادون بالرجوع والاعتزاز بالحضارات القديمة البائدة، كالفرعونية، والآشورية، والبابلية، ولما دعا الترك إلى الطورانية ودعا العرب إلى القومية، قام الأكراد وقالوا: نحن أكراد، وثار البربر في شمال أفريقيا وقالوا: نحن بربر، وتفرق المسلمون وأصبح كل تجمع يعتز بجنسيته أو قوميته أو وطنيته، أضف إلى ذلك ما جاءنا من الغرب من هذا الانبهار الذي طغى على عقول مفكرينا ورجالاتنا وأبنائنا وفتياتنا، فهذا نمط ونوع واحد من الاختلاف.