إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى ذم بني إسرائيل في محكم كتابه أنهم كانوا يؤثرون هذه الحياة الدنيا ويحرصون عليها أشد الحرص فقال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96]، فكان أحدهم يود أن يعمر العمر الطويل، وألّا يفارق هذه الدنيا، وألا يأتيه الموت، وقد أصاب هذه الأمة ما أصاب بني إسرائيل من قبل فخسرت كثيراً.
ومن أراد أن يعلم نهاية الحياة فليذهب إلى القبور، وليعلم أن مصيره هناك، فليذهب يوماً ما وليقف على قبور الذين أفضوا إلى ربهم، وليعلم أن مصيره سيكون مثلهم، وأن الموت سيأتيه، وأنه سيلاقي ربه شاء أم أبى، فالأمر ليس إليه.
لقد جئنا إلى الحياة وليس لنا إرادة، وسنفارق هذه الحياة وليس لنا اختيار، فنحن نجيء بقدر الله سبحانه وتعالى، ونمضي بقدر الله عز وجل، وليس لنا إرادة في المجيء، وليس لنا إرادة في الذهاب فكل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى.
فمحمد صلوات الله وسلامه عليه المصطفى المختار جاءه الموت، ونزعت روحه من بين جنبيه، ودفنه أصحابه في التراب وأفضى إلى ربه، فمن أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالكل ماض على الدرب.
إنها حقيقة نتناساها ونتجاهلها، لكنها عندما تستقر في نفس المؤمن الحية عند ذلك يصنع كما صنع المسلمون، فعندما أيقنوا بهذه الحقيقة قلبوا معادلات كثيرة في هذه الحياة وفي الصراع بين الحق والباطل.
فعندما واجه زعماء الكفر والشرك جيوش الإسلام بأعدادها القليلة، والتي قد تصل إلى بضع ألوف مقابل عشرات الألوف ومئات الألوف في المعارك الكبرى التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم؛ كان المسلمون دائماً قلة، وكان أعداؤهم يواجهونهم بالحشود الضخمة والجموع الهائلة ويقولون لهم: ماذا تستطيعون أن تفعلوا بهذه الأعداد القليلة؟ ولكنهم بهذه الحقيقة غيروا معادلات ضخمة.
فكان يقول قائلهم في المفاوضات التي تجري: جئناكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، قوم لا يخشون الموت بل إن أمنيتهم الموت، وأمنيتهم أن يموت المسلم شهيداً في سبيل الله لينال حياة دائمة عند ربه؛ لأنه يستشعر قول الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169 - 170]، ويذكرون قول نبيهم المصطفى المختار صلوات الله وسلامه عليه: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في رياض الجنة تأكل من ثمارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن) ويذكرون قول الله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261].
كانت هذه الحقيقة دائماً أمام أعينهم، فكانوا يبذلون من أموالهم، وأوقاتهم، وأنفسهم؛ طلباً لرضوان الله سبحانه وتعالى، فلماذا يفرون من الموت؟ ولماذا يهربون من الموت والموت حق؟ كانوا يعلمون أن الشهيد عندما يسقط في حومة الوغى فإنه لا يفتن في قبره، وذلك أنه فتن في الدنيا في ميدان الحرب والقتال فصبر على البأس والأذى، ولقد رأى الموت بعينيه فلم يتراجع؛ ابتغاءً لما عند الله سبحانه وتعالى، فحسبه بذلك فتنة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فعندما استقرت هذه المعاني في نفوس المسلمين لم يقف في وجوههم أحد، وعندما استقرت هذه المعاني في نفوس المسلمين استطاعوا أن يحاربوا الباطل في مجتمعاتهم وأن يجتثوا جذوره، وأن يكون فيهم رجال يستطيع الواحد منهم بموقف أن يغير اتجاه أمة، وأن يقف في وجه تيار جارف يريد استئصال الإسلام.
فلقد وقف أحمد بن حنبل في وجه تيار مستغرب جاء ليجتث جذور الإسلام، وليدخل في عقائد الإسلام ما ليس منها، إنه رجل واحد وقف في وجه الحكام الذين كانوا يملكون الدولة ويملكون السيادة، ولكنه وقف بإيمانه، فضُرب، وأوذي، ولكنه لم يلن، ومضى الذين كانوا يحملون هذا الفكر الفاسد، وبقي فكر الخير يسري في هذه الأمة، ويصل ما قبل الإمام أحمد بما بعده؛ ليستمر النهر الفياض إلى أن تقوم الساعة.
فعندما يوقن المسلمون بهذه الحقيقة فسيتمكنون من تغيير كثير من الأمور والأحوال، وعندما ينسونها فلن تتغير الحقيقة؛ فسيمضي الناس، وسنمضي إلى الله سبحانه وتعالى، فالموت آتٍ لا محالة.
وينبغي لهذه الحقيقة أن تنتج نتيجة وهي: أن تصبح هذه الأمة كما كانت أمة مقاتلة ومجاهدة، فالجهاد يحيي هذه الأمة ويفجر طاقاتها، ويغسل أدرانها وأوساخها وأقذارها.
إن هذا الترهل الذي نعيشه في أيامنا: من الشهوات، والملذات، والنعيم الذي يتردى فيه الناس، يخدر أعصابهم ويقتل طاقاتهم.
ونحن نحتاج إلى أن نعود مرة أخرى إلى معاني الجهاد والبطولة والفداء الذي يحول هذه الأمة إلى أمة مجاهدة تغسل أدرانها وتفجر طاقاتها، فعند ذلك تتحول مسيرة هذه الأمة.