لكن يبقى أن الفقيه بالفعل الذي تحضره المسائل في ذهنه هذا هو الفقيه الحقيقي، الفقيه بالقوة يعني ما حكموا على الإمام مالك أنه ليس بفقيه لما سئل عن مسائل كثيرة وقال: لا أدري؛ لأن بإمكانه أن يصل إلى الحكم في أقرب مدة، كثير من الطلاب فقهه بهذه الطريقة، لكن يبقى أنه إذا زادك حاضر ما هو مثل إذا كان غائب، فالتمر لا يحتاج إلى عناء، مثل الحفظ، والقوة القريبة من الفعل مثل البر تحتاج إلى معاناة تحتاج إلى طبخ تحتاج إلى غير ذلك، فعلينا أن نعنى بالحفظ، ومع الحفظ يكون الفهم.
وطلاب العلم يحتارون كثيراً في تقديم هذا أو هذا، ولكنه لا بد منهما معاً، وفي أول العمر في الصبا يحرص طالب العلم على كثرة المحفوظ؛ لأن الذي يحفظ في حال الصبا يستقر ولا ينسى، ثم بعد ذلك إذا تقدمت به السن يكون حرصه على الفهم، فإذا حفظ ثم فهم توفرت له الآلة التي يستطيع بها إدراك العلم، فعليه أن يسدد ويقارب.
يقول أيضاً: مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي خصيصة هذه الأمة، وهي سبب خيريتها كما قال الله -جل وعلا-: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [(110) سورة آل عمران]، فقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان، وهل يصح أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بدون إيمان؟ لا يمكن أن يصح، لكن تقديمه للاهتمام به، والعناية بشأنه، وأنه هو خصيصة هذه الأمة، التي به فضلت على سائر الأمم وإلا فكل الأمم يؤمنون بالله، إذن ما لنا مزية إذا كان ما عندنا إلا الإيمان، لكن عندنا أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من شعائر الدين لا تصح إلا بعد الإيمان فتقديمه يدل على أهميته، وبنو إسرائيل إنما لعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم، بأي شيء؟ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.