في هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم إذا -كما تقدم في حديث مسلم- ((إذا ترك الظالم لم يأخذوا على يد الظالم أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده)). يقول القرطبي: قال علماؤنا فالفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر، وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم، يعني لا يستطيعون التغيير باليد ولا باللسان أنكروا بالقلب، لكن هل يسوغ لهم أن يبقوا مع هؤلاء العصاة؟ يقول: وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.
وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم، كما في قصة السبت حين هجروا العاصين، وقالوا لا نساكنكم، وبهذا قال السلف -رضي الله عنهم- روى ابن وهب عن مالك أنه قال: "تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها".
أما إذا استخفى العاصي المذنب بجريمته فهذا لا يضر غير نفسه، الإشكال فيما إذا ظهر المنكر وأعلن ولم يوجد من يدافع، أو من يدفع هذا المنكر، فحينئذ يوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده.
الهجرة عند أهل العلم منها الواجب، وهي باقية إلى قيام الساعة، فالواجب منها الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فالإقامة في بلاد الكفر لا تجوز حرام إلا لعاجز، إلا المستضعف المستثنى، الذي لا يستطيع حيلة، ولم تذكر الحيلة بشيء من النصوص بالإقرار والجواز إلا في هذا الموضع؛ لأن ضرر البقاء بين أظهر المشركين ضررٌ محض، كثير من المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفار الضرر عليههم في أديانهم وعلى ناشئتهم أظهر، الذين يربون في بلاد الكفر وفي مدارس الكفر ضرر عظيم،
وقد برئ المعصوم من كل مسلمٍ ... يقيم بدار الكفر غير مصارمِ لا بد أن يهاجر إلا إذا عجز حينئذٍ يعذر، هذه الهجرة الواجبة.
وأما الهجرة المستحبة فالهجرة إلى البلد الذي فيه الأخيار أكثر وأظهر من بلاد المسلمين، ويتمكن فيه من طلب العلم من أهله، أهل العلم والعمل والإخلاص والتحقيق لعقيدة التوحيد، الهجرة إلى مثل هذا البلد مستحبة، على أن لا تخلى البلدان الأخرى ممن يدافع.