في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} معنى أبوء: أرجع، يقول العبد وهو ينادي الله: يا رب! أنت الرحيم الغفور أبوء لك أي: أرجع لك بأمرين، من شر ما صنعت ونعمة منك، فمني أنا خطيئة ومنك نعمة وعطاء، فأنت صاحب الجميل والمعروف، فما دام أنك أنعمت عليَّ وكرمتني وخلقتني ورزقتني فكمل من إكرامك وإنعامك بمغفرة ذنوبي، أجل ليس من العبد شيء، النعمة من الله، والتقصير من العبد، يقول: أرجع إليك بإحدى اثنتين بذنب مني ونعمة منك، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: السائر إلى الله عز وجل يسير بنظرين: نظر في جلال النعمة من الله عز وجل، ونظر في عيب النفس والعمل وتقصيرها، فأنت تعود إلى الله بذلك، وقد سبق في كتاب الزهد للإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يقول الله تبارك وتعالى: عجباً لك يا بن آدم! ما أنصفتني! خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غنيٌ عنك، وتتبغضُّ إليَّ بالمعاصي وأنت فقيرٌ إليَّ! خيري إليك نازلٌ وشرُّك إليَّ صاعد!} فهذا مفهوم العبد المسلم، يوم يعرض نفسه على الكتاب والسنة يجد أن ما عنده حول ولا طول ولا قدم شيئاً إلا التقصير والذنب والخطيئة.
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[اجلسوا إلى أفواه التائبين فإنهم أرقُّ أفئدة]] وإذا أراد الله أن يكسر العبد، ويكسر قلبه وكبره وعتوه وجبروته كتب عليه الذنب، فيذنب فينتهي الغرور، والغطرسة، والكبر، والعتو، والجبروت، ويعود ذليلاً، يعرض على ربه وعلى عتبات مولاه نفسه وروحه، فإذا أراد الله أن يترك العبد تركه؛ ولذلك بعض الناس بالطاعات يزهو ويتكبر وتعجبه نفسه، ويرى أن الناس في شقوة دائماً، وإذا جلس في مجلس أخذ يهتك أعراضهم ويقول: نسأل الله العافية، فلان مقصر، فلان نسأل الله أن يعافينا مما ابتلاه، فلان كذا وكذا.
قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {من قال: قد هلك الناس فهو أهلكَهم} وفي لفط: {هو أهلكُهم} ومعنى هذا: يقول من قال: أن الناس قد هلكوا، وكثرت المعاصي، وأنهم شردوا عن الله، فعلامة ذلك أنه معجب بنفسه، وأنه مغرور، فهو أهلك الناس، أو على لفظة: هو أهلكهم، يعني: هو الذي أهلكهم بهذا الكلام؛ لأن بعض الناس إذا سمع بفاحشة، أو حد أقيم، أو إنسان تناول مخدرات، أو إنسان -نسأل الله العافية- زنا، يجلس في المجلس ويقول: ما سمعتم فلان بن فلان من آل فلان يقولون: إنه ارتكب فاحشة، وينتقل في المجلس هذا، وفي هذا، ويعرض الفاحشة، ليهونها في قلوب الناس؛ لأن الرأي العام كلما تحدث عن الفاحشة هانت الفاحشة في قلوب الناس، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19] ولذلك كان من الحكمة ألا يتحدث في ذلك كثيراً، أنا لا أقول: نسكت، ونغلق أعيننا، ونسد على آذاننا، ونقول: الناس ما شاء الله تبارك الله على عصر الصحابة، التفاح والموز والبرتقال يباع في السوق بأرخص الأثمان ونعمة من الله جليلة، لأن بعض الناس يرى الموز والتفاح والبرتقال أفضل نعمة، وهي إذا وجدت في الأسواق وتوفرت بالأثمان الرخيصة فالأمة في الرقي، وفي العظمة، وفي الدرجة الأولى، وهذه نَعْمة ليست بنِعْمة، النِعمة مع هذه النَعمة أن تتصل القلوب، وأن تمتلئ المساجد، وأن ترى الناس في صلاة الفجر، وأن ترى القرآن يُعمل به، وأن ترى مدارس تحفيظ القرآن متجهة ومقومة، وأن ترى الكتاب والسنة يقرأ ويتدارس، وحلقات العلم حية، والدعوة قوية، وأن ترى الفواحش وأهل الضلالة وأهل الباطل مقموعين؛ هذه هي النعمة؛ أما أن نخدع أنفسنا ونطلي أجسامنا بالزيت، ونقول: ما شاء الله تبارك الله وإنما نحن في سلام، لا ينبغي هذا المنهج، والمنهج الآخر أن نكون كلما جلسنا في مجلس قلنا: هذا المجتمع كله في ضلال، ولا يغرك إقبال الناس في المساجد، ولا تغرك الصلاة، ولا تغرك الدعوة، ولا تغرك كذا، لا، بين وبين؛ مثل منهج الكتاب والسنة، ومن قومه الله سدده.