الرسول صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على حالة الاستنفار، فالترهل والكسل، والجبن والخور لا يعرفه أحد منهم، يصعد المنبر ويخطب، ويمسك السيف في أول أيامه، يعلن حالة الاستنفار والحرب على أبي سفيان من على المنبر، أعلنه يوم الجمعة، فيستشير الصحابة صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر وهم جلوس -كانوا أحياناً يصلون بالسيوف- فيقول: ما رأيكم نقاتل أبا سفيان في المدينة أو نخرج له؟
وكان يريد صلى الله عليه وسلم أن تكون المعركة داخل المدينة؛ لأن حرب المدن دائماً المدافع ينتصر بإذن الله على المهاجم، وهذا هو الرأي الصحيح، قال: تكون الحرب داخل المدينة، حتى يقتل أبو سفيان وجيشه في الأزقة وفي المنحنيات، وفي مجامع الطرق، فصوت كبار الصحابة على هذا الرأي، ودخل مالك بن سالم من الأنصار، شاب في العشرين من عمره، وعليه ريشة نسر وقد سل سيفه وقال: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى أحد أيسبي أبو سفيان سبايانا ويأخذ غنمنا ونقاتل داخل المدينة، يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فو الذي نفسي بيده لأدخلن الجنة} ذكرها ابن إسحاق.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم على المنبر من هذه الحرارات والتوقدات، قال: {وبم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين قال: ما هما؟ قال: أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف} فيخرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد ويدير المعركة على رأس أبي سفيان، وهكذا سلّم صلى الله عليه وسلم راية الجهاد على المنبر لـ عمرو بن العاص، وسلّمها لكثير من المقاتلين، وقال على المنبر: {وأخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه}.
فالقرارات العسكرية كان يعلنها صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، ولم تكن خطب الجمعة تقتصر على الغسل من الجنابة فقط، ولا على التيمم ولا تحريك الأصبع، لا.
خطب الجمعة للا إله إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق، في الاقتصاد، والأدب، والحياة، هي لعالم الغيب والشهادة، هكذا أرادها عليه الصلاة والسلام.
الشجاعة الإيمانية، مثل خالد، كان يصلي بالمسلمين في اليرموك، وكان جيشه أقل من ثلاثين ألفاً، وجيش الروم ما يقارب ثلاثمائة ألف، انظر الفارق، عشرة أضعاف، قال: [[إني مصلٍ بكم الفجر، ثم إني مكبر فإذا كبرت الأولى فاركبوا الخيول، يعني الخيالة -الكمندوز- وإذا كبرت الثانية: فيمموا العدو، وإذا كبرت الثالثة: فابدأوا باسم الله]] فكبر أبو سليمان، وبدأ في التكبيرة الثالثة: وقد بدأ الهجوم الصاعد وكان خالد قد خاض مائة معركة في الجاهلية والإسلام، لم يهزم في معركة.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله يشعلها وخالد في سبيل الله يذكيها
ولا أتى بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
يوم مات كان يقول: [[فلا نامت أعين الجبناء]] يقول: الليلة فرحة الجبناء من السعود؛ لأنهم سوف يسمعون أن خالد بن الوليد مات، ومعنى ذلك أنهم سوف يعلقون العقود الكهربائية، ويرقصون ليلهم إلى الفجر، لأن هذا عيد وفرح وسرور، ولكن خلف لهم خالد ألف خالد، وخلف لهم صلاح ألف صلاح، وخلف لهم طارق ألف طارق.
ويعيشها الإنسان مثل المعتصم.
المتوكل على الله عز وجل، أتاه المنجمون عندما أراد أن يفتح عمورية فقالوا: احذر، برج الذنب الآن قد استكمل، فإذا أتى برج العقرب فاغز الروم، وهل يتعامل المعتصم مع النجوم؟ أمة تعرف لا إله إلا الله، تعرف: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] قال: آمنت بالله وكفرت بكم، والله لأغزون هذا اليوم، وتحرك بتسعين ألفا.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
ولكن ما هو برنامج الجيش؟ جعل ابن مرزوق محمد بن الحسن الشيباني الإمام والمفتي والخطيب للجيش، إنها أمة تصلي الصلوات الخمس، وتقرأ القرآن ولها حزب من القرآن، أمة تتهجد وتتصل بالله.
وصل المعتصم إلى المعركة، ودمر عمورية، وانتصر بإذن الله، وقال له أبو تمام يحييه:
أين الرواية أم أين الدراية كم صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
بهارج وأحاديث منمقة ليست بنفع إذا عدت ولا غرب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
النصر بالقتال، النصر بالاعتزاز بقدرة الواحد الأحد.
ويعيش ابن المبارك، عالم محدث وراوية، لكن العالم الإمام في المنبر وفي المحراب ينقلب إلى أسد في الجبهة.
إن تصنيف الناس إلى تخصصات واجب، لكن إذا طغى تخصص على تخصصٍ آخر وأعدمه فليس بوارد، فـ ابن المبارك يخرج من الحرم وهو المفتي، فلامه الفضيل بن عياض على ذلك وقال: تخرج من الحرم وتقاتل، وتترك الصلاة فيه، والصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة، وكان ابن المبارك أفقه، فقال: نعم أخرج.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
ويقاتل ابن المبارك في المعركة، ويقتل سبعة في يوم واحد، فيرسل له الفضيل يلومه، ويقول: تركتنا، وتركت الحرم والدروس، فيكتب له:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
هذه مصداقية الشجاعة الإيمانية التي ورثها المسلمون من معلمهم الكبير عليه الصلاة والسلام.
شيخ البخاري أبو إسحاق وإذا قال البخاري: أبو إسحاق، فهو الفزاري الذي يقول البخاري عنه: أشجع من عرفنا في الإسلام أبو إسحاق الفزاري، فقال الرجل: لا.
ليس بصحيح هذا، فغضب البخاري فقال: أشجع الناس في الإسلام والجاهلية.
وأبو إسحاق شيخ محدث، قتل ألف مقاتل مبارزة بدون سيف، كان عنده مثقال من الحديد لا أدري كم وزنه، ذكره الذهبي، وكان قوي الجسم، فإذا خرج الفارس يبارز أبا إسحاق فر أبو إسحاق أمامه، ثم يلتفت إليه فجأة فيضربه على رأسه، فيوقعه على الأرض بدمائه.
كان أبو إسحاق من أشجع الناس على الإطلاق، وقد حياه الخلفاء في عهده، لأنه كان محدثاًَ يعرف حدثنا ورواه فلان، ويعرف الجرح والتعديل، لكنه إذا حضر المعركة عرف الجرح والتعديل من نوع آخر.