دعوه وقالوا: نتفاوض معك يا محمد! ولا ينادونه بالرسالة تكبراً وبغياً وحسداً، يقرءون في التوراة اسمه، ورسمه، وصفته، وقالوا للأنصار: سوف يبعث لكم عربيٌ من مكة رسولٌ من عند الله؛ فلما رأوه عرفوا الصفة بالمكتوب، والصوت بالصورة، والمقروء بالمشاهد، قالوا: لا.
اختلف الوصف، قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] بعدما وصفتم وبشرتم وأخبرتم؛ كفرتم؟!
هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام، دعوه للمفاوضة وذهب عليه الصلاة والسلام، ولم يأخذ حرساً، ولا موكباً، ولا خدماً، ولا حشماً، ولا جنوداً، ولا بنوداً.
رعاية الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ
كأنه وهو فردٌ من جلالته في موكبٍ حين تلقاه وفي حشمِ
وقد كان يحرس من الناس فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] لا تتخذ حرساً، لا يحميك إلا الله، لا تتخذ جنوداً، ولا موكباً، عناية الله تكفيك، ورعاية الله معك، والله يحوطك بعيني رعايته، فلا تتخذ أمامك ولا خلفك ولا معك من يحوطك، يحفظك الله فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
وانطلق بلا حراسة، تعرض لعشر محاولات اغتيال ونجا منها بأعجوبه، فبقي معلماً حتى أدى الرسالة.
فوصل اليهود معه ثلاثة، قالوا: تعال إلى الظل يا أبا القاسم! الخونة يظللونه من الشمس! فقربوه من الجدار فجلس موكلاً أمره إلى الباري، مفوضاً أمره إلى الواحد الأحد، القوي العزيز، المطلع على السرائر، الواحد الأحد: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] أوكل أمره إلى الله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45] حسبنا الله ونعم الوكيل هي كلمة محمد صلى الله عليه وسلم، جلس ولسان الحال يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والمكيدة تُجرى على السطح، فقربوا صخرة ضخمة يدفعها أربعة منهم وقربوه من الظل، ليسقطوا الصخرة من على الجدار على رأسه، يقتل من؟ أزعيم؟! أفضل الزعماء.
أعالم؟ معلم العلماء.
أصالح؟ سيد الصالحين، يقتل! فقربوا الصخرة وبقي ثوانٍ لتسقط على رأسه الشريف؛ لتنتهي هذه النفس الطاهرة وهذه الروح العامرة ويقتل محمد ليبكي التاريخ، ويندب الدهر، وترثي الدنيا كل الدنيا، ثوانٍ وإذا بالوحي من السماء، قم قم، اذهب اذهب، اخرج اخرج، الموت أقبل منك، يدبرون قتلك، فوثب عليه الصلاة والسلام، وتأخر عن الظل وعن الجدار فوقعت الصخرة مكانه، فدعاهم: يا أعداء الله! وجهز جيشه لبني النضير واستلمهم صلى الله عليه وسلم وأذلهم.