أما وصف الموت فهو عجيب، وكلٌ منا سوف يذوقه، وانتظر أياماً وليالٍ فسوف تذوق الموت، وتهيأ للموت، وإن كنت لم تستصحب كفناً فخذ كفناً الآن، واعلم أن القبر ينتظرك، والله لو كنت في بروجٍ مشيدة، فلن تفلت من قبضة الجبار، فتهيأ بالعمل الصالح وبمغفرة الواحد الغفار: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83 - 87].
لا إله إلا الله ما أهول الموت! ولا إله إلا الله ما أبشع الموت! ولا إله إلا الله ما أخوف الموت! اسمه يُخاف منه، تقشعر الأبدان، تنتهي اللذائذ، ينقطع الضحك، تنتهي المجالس، تخرب في عينك القصور، الحدائق الغنَّاء، البساتين الوارفة، وخرير الماء، وزجل الحمام، وزقزقة العصافير، هفيف الريح، كلها لا شيء مع الموت.
دخلوا بـ ثابت البناني في حديقة في خراسان فيها كل ما لذ وطاب، حديقة فيها نخل باهٍ، فيها تين ورمان وريحان، فيها نهر مطرد، فيها عشب وزهر من كل لون بهي، فقالوا: ما لك لا تنظر؟ قال: قطع الموت النظر.
ماذا ينظر الإنسان؟ كم من ملك رأى الجنود والبنود والأعلام ولكن انتهى، ماذا أخذ؟ وماذا ملك؟ وبماذا ذهب؟ ولماذا جمع؟ هذه حقيقة الموت، وطعمه مر لكنه حلو على من عرف الله.
هذا بلال، تقول امرأته: واحزناه! قال: [[وافرحتاه! غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه]].
عليك رضوان الله يا بلال! يا صوت الحق! يا داعية السماء! يا صرخة التوحيد التي انطلقت من مكة! يا أيها العبد الذي أعلن عبوديته لله! قال عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]].
بلال الذي تستفيق على أذانه القلوب التي عرفت الله.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
قالوا لـ عمر بن عبد العزيز وهو في مرضه: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: لا.
مللت الحياة، والله لو كان علاجي في أن أمس أذني ما مسست أذني، أريد جوار الله.
شاعر عربي مصقع اسمه التهامي، يقول ابن كثير: له قصيدة في ابنه يرثيه، يقول في قصيدته:
إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابة الأوتار
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول: أنا بقيت في الحياة مجاوراً للحساد والبغضاء والبعداء والأعداء؛ وابني في جوار الله.
فلما توفي رئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: بقولي:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
انظر كيف يدخل الإنسان المسلم الجنة ببيت! وانظر كيف يدخل النار ببيت! إنسان يعادي الرسالة والرسول والقرآن والمبادئ الخالدة يدهده على وجهه في النار، إنسان يسخر قلمه؛ صحفي قصصي ناشر عالم قاض، أي مسلم يسخر مجهوده وطاقته كيف يرفعه الله ويدخله الله الجنة، يقول كعب يهجو قريشاً لأنها تحاد الله، يقول:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
قال عليه الصلاة والسلام: {لقد شكر الله لك بيتك يا كعب}.
الله من فوق سبع سموات يشكر بيتاً في الدعوة والتوحيد.
وإنما مقصودنا هنا ما هو الموت، وكيف نصف الموت.
قيل لـ عمرو بن العاص قال له ابنه عبد الله: صف لي الموت يا أبتاه وأنت في سكرات الموت، صف لي الموت فلن يصف أحد الموت بمثل ما تصفه، قال: [[يا بني! والله الذي لا إله إلا هو كأن جبال الدنيا على صدري وكأني أتنفس من ثقب إبرة]].
وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه لـ كعب الأحبار: صف لي الموت؟ قال: يا أمير المؤمنين! أعانك الله على الموت، فدمعت عينا عمر، قال: الموت كما يؤخذ غصن من الشوك، فيضرب به الإنسان، فلا تبقى شوكة إلا دخلت في عرق أو عصب ثم يسحب الغصن فيسحب كل عرق أو عصبة معه.
وفي حديث يقبل التحسين: {لسكرة من سكرات الموت أشد من ضرب بالسيف سبعين ضربة}.
والموت شاق ومخيف ولا يسهله إلا الله، أتدري ماذا يسهل الموت؟ التصدق على المساكين والفقراء ركعتان في ظلام الليل ظمأ الهواجر التسبيحات حضور الجماعات بر الوالدين والوالدات حسن الخلق للمسلمين والمسلمات كثرة السجود يقول صحابي: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة -والحديث في مسلم - قال: أعني على نفسك بكثرة السجود}.
ومن حديث ثوبان عند مسلم: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27].
أين الطبيب؟ أين الراقي؟ أين من يقرأ؟ ذهب الطب، ذهب الدواء والعلاج: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
أي: تفر، كنت تتعالج، وتطلب العقاقير والأدوية، لكن جاءت سكرة الموت اليوم وأتى الوعد الحق اليوم، وأتى الفيصل اليوم، وأتى الانتقال والارتحال من الدنيا إلى الآخرة اليوم، فما أصبح طب ولا دواء ولا عقاقير.