ولو نجا أحد من الناس من ساعة الموت لكان جديراً أن ينجو محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه -والله- ما نجا, مر بها كما يمر بها الإنسان, ووقف معها كما يقف الإنسان، وهو أشرف الخلق على الله تبارك وتعالى, وهو أكرم الناس على ربِّ الناس, لكنه تلقاها برحابة صدر؛ لأنه أحسن العمل مع الله, يروي البخاري ومسلم في صحيحيهما: {أنه لما احتضر صلى الله عليه وسلم وضع خميصة -وهي قطعة قماش- على وجهه الشريف من شدة الكرب, وروحه تنتزع من بين جنبيه وهو يقول: لا إله إلا الله, لا إله إلا الله, لا إله إلا الله إن للموت لسكرات, اللهم أعني على سكرات الموت, اللهم خفف عليّ سكرات الموت، تقول عائشة: بأبي هو وأمي، والله إنه كان يضعها في الماء فيبلها -أي: الخميصة- ثم يضعها على وجهه ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت, ثم يقول صلى الله عليه وسلم وهو كذلك: بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى} قال العلماء: إنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خير بين أن يمد له في عمره, وأن ينسأ له في أجله أو يلقى ربه, فقال: بل الرفيق الأعلى, أي: أريد اللقاء الآن, أريد الرحيل من هذه الدنيا الآن, أريد الموت في هذه الساعة؛ لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مهما طال عمره، ومهما امتد أجله, فإنه سيلقى هذا المصرع، فمن الآن إذاً.
فإذا كانت هذه الحياة نهايتها هذه النهاية, فبدون كلفة ومشقة، وبدون هموم وغموم، الآن أنهيها, والآن أتجرع كأس الموت، والآن أرتاح من هذه الحياة.
وتوفي صلى الله عليه وسلم كما يتوفى الناس, ومات كما يموت الإنسان, ولكن بقي ذكره أبد الآبدين؛ لأنه أحسن العمل مع الله.
والإنسان يطمع في طول العمر, ويطمع في امتداد الأجل؛ لأن بعض الناس يرى أن هذه الحياة متعة, سكنى ومطعم، وملبس وزواج، وترق في المناصب؛ فيرى أن هذه الحياة أحسن من الحياة الأخرى, أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة, أولئك الذين ضلت أعمالهم, وأولئك الذين حبط مسعاهم وأولئك الذين خسروا الصفقة مع الله, فهم يريدون هذه الحياة فحسب.
وقف موسى عليه السلام فقال: يا رب! أريد عمراً طويلاًَ, قال الله سبحانه وتعالى: يا موسى! اختر ما شئت، وجاء ملك الموت -وهذه قصة صحيحة- فضربه موسى ففقأ عينه, فعاد ملك الموت إلى الله فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ففقأ عيني, فرد الله عليه عينه, وعاد ملك الموت ليقبض روحه, قال: يا موسى! تمنَّ ما شئت من العمر, قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تموت, قال: الآن إذاً, فقبض روحه, ولذلك يقول أبو العتاهية:
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
فإن كان هذا العمر, فلا بد من النهاية، ولا بد من المصير المحتوم.