كثيرٌ من الناس علموا بالقبر وأول ليلةٍ فيه فأحسنوا العمل، ولذلك تجدهم متهيئين دائماً، يريدون الله والدار الآخرة، ثبتهم الله في الليل والنهار، يترقبون الموت كل طرفة عين.
خرج رجلٌ من الصالحين، وشيخٌ من المشايخ -أعرفه- من مدينة الرياض يريد العمرة بزوجته وأطفاله، وكانت زوجته صائمة قائمة ولية من أولياء الله، وفي تلك السفرة حدث شيء غريب وهو أنها ودعت أطفالها، وكتبت وصيتها، وقبَّلت أطفالها وهي تبكي؛ كأنه ألقي في خلدها أنها سوف تموت {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] ذهب واعتمر بزوجته وكان هو وإياها في بيتٍ أُسس على التقوى، إيمانٌ وقرآنٌ، وذكرٌ وصيامٌ، وقيامٌ وعبادة، لا يعرفون الغيبة ولا الفاحشة ولا المعاصي، ولما رجع قطع طريق الطائف إلى الرياض فأتى الأجل المحتوم إلى زوجته {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7] ذهب إطار السيارة فانقلبت، فوقعت المرأة على رأسها، لكنها إن شاء الله شهيدة {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] وخرج زوجها من الباب الآخر ووقف عليها، وهي في سكرات الموت، تقول: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، الله الله الله وتقول لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة، بلغ أهلي السلام {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
إي والله: أسأل الله أن يجمع تلك الأسرة في الجنة، وأن يجمعنا وأحبابنا وأقاربنا في الجنة.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
عاد الرجل وحده إلى الرياض، ودخل بيته، واستقبله الأطفال، وكان قد دفن زوجته وأتى بلا زوجة حياةٌ سهلةٌ وبسيطة، ولكن الموقف المرعب أن إحدى أطفاله، قامت تقول: أين أمي؟! قال: سوف تأتي، قالت: لا والله لا بد أن أرى أمي، وانهار الرجل، وقال لتلك الطفلة: سوف ترينها -بإذن الله- في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، يعمل لها العاملون، ليست كدنيانا الحقيرة السخيفة التي يعمل لها الذين لا يريدون الله والدار الآخرة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابت فيها
يا إخوتي في الله! يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره ودنا أجله! هل أعددت لأول ليلة؟
يا شاباً متنعماً غرَّه الشباب، والمال والفراغ، هل أعددت لأول ليلة؟
إنها أول الليالي، وإنها إما أول ليلةٍ من ليالي الجنة، أو أول ليلةٍ من ليالي النار.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، وصلوا على أصحابه وترضوا، وعلى أحبابه.
أسأل الله لي ولكم الرضوان والسعادة في الدنيا والآخرة، وأسأل الله أن يصلح ولاة الأمر، وأن يهديهم سواء السبيل، وأسأل الله أن يصلح شباب الإسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكفر عنهم سيئاتهم، ويهيئهم بعملٍ صالحٍ لأول ليلة من ليالي القبر.
أسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت، ولا يُظْلِمَ أبصارنا وبصائرنا، ولا يجعلنا قوماً انحرفوا عن منهج الله، وابتغوا معاصي الله، وغفلوا عن آيات الله؛ فعموا وصموا، وظلوا وابتعدوا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.