ضرورة الإعذار في خلاف التنوع

واعلموا أيها المسلمون! أن خلاف التنوع لا يفسد القلوب، وقد اختلف أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في مسائل، وكانوا مجتمعين متحابين متآلفين يصلون سوياً، ويدعو بعضهم بعضاً، ويجلسون سوياً، ويتزاورون ويتجاورون والحمد لله.

فقد اختلفوا في مسائل كثيرة مذكورة في كتب أهل العلم، ومن استعرض المغني يجد أن مسائل الإجماع في المسائل الفرعية قليل، وأنَّ أكثرها مختلفون فيها، ومع ذلك تحابوا وتصافوا وتجاوروا وتزاوروا ولم تأت بينهم ضغينة.

فمن الصحابة من ضم يده اليمنى على اليسرى على صدره، ومنهم من ضمها تحت السرة، وهذا لم يعب على هذا، ولم يبغض هذا، ولم يعاد هذا، ومنهم من أفطر في السفر، ومنهم من صام في السفر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، ومنهم من كان يحرك إصبعه في التشهد ومنهم من كان لا يحركها، ولم يعب هذا على هذا، إلى مسائل أخرى.

حتى في بعض مسائل المعتقد، فإن منهم من رأى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه لما عرج به عليه الصلاة والسلام، مع العلم أن الراجح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ومنهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ولم يعب هذا على هذا، ولم يسب هذا هذا، ولم يعاد هذا هذا، فلماذا نختلف على مسائل كهذه.

وقد سمعت أن بعض الناس في بعض المسائل في التراويح تغاضبوا في بعض الأحياء، وتهاجروا من أجل أن إماماً صلى بهم إحدى عشرة ركعة، وكانوا يرون أن يصلي بهم ثلاث عشرة ركعة، فبعضهم ترك صلاة التراويح، وذهب إلى مسجد آخر وهجر أهل هذا المسجد، وهذا من الجهل؛ فإن إحدى عشرة ركعة سنة، وورد في بعض الألفاظ ثلاث عشرة ركعة، والراجح إحدى عشرة ركعة، ولو اجتمع الناس على الأمر المرجوح لكان خيراً.

وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي أثابه الله: أن أناساً في بلد من البلدان تضاربوا في المسجد في صلاة التراويح، يقول بعضهم: ثلاثاً وعشرين ركعة، وبعضهم إحدى عشرة ركعة، فاختصموا وتشاجروا وبعضهم أخذ عصياً، وبعضهم تحزب في طرف المسجد فحضر عالم من العلماء، قالوا: ما رأيك يا شيخ نصلي ثلاثاً وعشرين ركعة أو نصلي إحدى عشرة ركعة؟ قال: أرى أن تغلقوا المسجد ولا تصلوا في هذه الليلة، هذا الأحسن، وصدق في فتواه فإن دخولهم بيوتهم وتركهم للتراويح على اجتماع القلوب وعلى الخير أحسن من أن يجمعوا وهم متناحرون على رأي من الآراء أو يبقوا في خصام وجدل.

وقس على ذلك زكاة الحلي فإن بعض الوعاظ دار في المساجد وقام بعد الجمعة حتى في مساجد أبها وحذر الناس وقال: انتبهوا أيها الناس لا يضللونكم الذين قالوا: إن في الحلي زكاة، بل ليس فيها زكاة.

وهل هذا تضليل؟! وقد أفتى كثير من علماء الإسلام بأن فيها زكاة، وهي فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وأفتى بعضهم بأن ليس فيها زكاة.

أما الذي يحذر الناس من هذه الفتوى فما أصاب، ولماذا هذا الجدال؟! ولماذا إشغال الناس بهذه المسائل؟ والمعاداة والموالاة ليستا من دين الله، قال الشاطبي: كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها، ولم يورد ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت وجلبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة؛ علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عني الرسول صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الأنعام:159] فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين.

ذكره في الموافقات وفي الاعتصام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015