وقد حذر السلف من أهل الأهواء، ويقصدون بأهل الأهواء أهل البدع، وأهل الشهوات الخفية، الذين يتخذون الدين سلماً لأغراضهم، أو يريدون أن يخترعوا في دين الله، أو يريدون أن يملكوا الرقاب أو الأموال، أو يحوزوا الأنفس بطريق الدين، فيلبسون على العامة ويلبسون على البادئين في العلم، فقد حذر منهم السلف الصالح.
قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون.
رواه ابن بطة في كتاب الإبانة، واللالكائي في كتاب السنة، والدارمي.
ومعنى هذا: أن الذي يثق بنفسه فيجلس مع أهل الأهواء لا يؤمن عليه أن يلبس عليه.
وأهل الأهواء كالعلمانيين والحداثيين والخوارج والرافضة والمرجئة والقدرية ومن في نفسه هوى وشهوة خفية هذا لا تجلس معهم ولو كنت تقول: إني سوف أنصحه؛ فإنه يعديك ولا محالة كما سوف يأتي.
وقال غيرهم: لا تجالسوا أهل الأهواء فإنكم إن لم تدخلوا فيما دخلوا فيه؛ لبسوا عليكم ما تعرفون.
رواه ابن بطة.
والمقصود: أنهم يلبسون الحق الذي معنا، فيشككونك فيما أنت عليه، وقد رأيت شباباً من أهل السنة منا، جلسوا مع الرافضة، وكان قصدهم أنهم يعيدون هؤلاء، وأولئك أكثر منهم جدلاً وثقافة، وبعضهم حجج في مذهبهم، فيجلس الشاب الذي في الثانوية أو في كلية الشريعة أو أصول الدين إلى هذا الحجة المليء بالهوى والضلال والغي، فيريد أن يرده، فيلبس عليه الحق الذي عند أهل السنة، فيأتي ويقول: والله ما أدري عن صحة الأحاديث التي في البخاري والترمذي، عن خلافة أبي بكر وعمر، فلا بد أن يتحقق منها، فانظر كيف ترك في قلبه مرضاً والعياذ بالله.
وقال ابن عباس: [[لا تجالسوا أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب]] رواه ابن بطة أيضاً.
ولذلك مر أحد السلف فوضع إصبعيه في أذنيه، قال: لئلا أسمع كلمة من صاحب هوى فتقع في قلبي.
وتقدم ثور بن زيد أحد رواة البخاري ومسلم وكان فيه قدر، فأتى يسلم على سفيان الثوري، فنفض سفيان يده وقال: المسألة تؤدي للدين.
يقول: لو كان غير الدين كنت سلمت عليك، لكن ما دام الدين فلا أسلم عليك، ولما مات أتى سفيان الثوري فاعتق الصفوف وخرج ليراه الناس ولم يصل عليه، لئلا يصلوا على هذا المبتدع.
وقال إبراهيم النخعي: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضاء في قلوب المؤمنين.
رواه ابن بطة أيضاً.
أي: أن الله يسلب نور العقل بسبب الجلوس مع أهل الهوى وأهل الزيغ والانحراف.
والذين يريدون الجدل والخلاف بين المؤمنين وينقلون الكلام بين طلبة العلم، فيسبون هذا ويتتبعون سقطات هذا وغلطات هذا ويجمعونه، وربما سجلوه وربما كتبوه وينسون محاسنه وينسون مواقفه؛ فهؤلاء من أهل الهوى؛ لأنهم يريدون أن يحل الجدل محل العمل أو محل الكتاب والسنة.
وقال مجاهد بن جبر: لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن لهم عرة كعرة الجرب.
أي: حكة كحكة الجرب.
ذكره ابن بطة.
فإن صاحب الهوى يترك في قلبك أثراً فتحتك من هذا الأثر فيدمي قلبك وهو هواه والعياذ بالله!
وقال محمد بن علي: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
ويلحق بذلك أيها الإخوة: من يشغل الناس بتوافه المسائل، أو المسائل التي ليس فيها علم، كمسألة دوران الأرض فيقيم المجلس ويقعده على هذه المسألة التي لا ينبني عليها عمل، ولا يسألنا الله عنها يوم القيامة، وليس فيها معتقد، ولم يتكلم فيها الصحابة، وكمسألة هل السحاب من البحر؟ وهل يتبخر البحر؟ مع أنه حقيقة تبخره الشمس بإذن الله في كلام طويل، ومسألة كروية الأرض، مع العلم أنها كروية، لكن هذه المسائل التي هي من الجدل وهي تمنع عن العمل فحذار من هذه.
قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140].
قال مصعب بن سعد: لا تجالس مفتوناً فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك عن دينك فتتبعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه.
ذكره ابن بطة أيضاً.
فالحذر الحذر من مجالسة هؤلاء، وإذا سمعت أحداً يخوض في آيات الله، يضرب بعضها في بعض، أو في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينتهك حرمات أهل العلم، أو يخالف بين الدعاة، أو يأتي بنقل لعالم ليضرب به قول عالم آخر، فهذا من أهل الهوى فانفض يديك منه.
قال يونس بن عبيد رحمه الله: أوصيكم بثلاث: لا تمكنن سمعك من صاحب هوى، ولا تخلُ بامرأة ليست لك بمحرم ولو أن تقرأ عليها القرآن، ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه.
رواه ابن بطة.
وقال أبو قلابة يوصي أيوب السختياني: يا أيوب! احفظ عني أربعاً: لا تقل في القرآن برأيك.
لا يتحدث أحد رأيه بالقرآن، ولا يتخرس برأيه فإن كتاب الله محفوظ إلا ما ظهرت عليه الدلالة أو أيدته لغة العرب.
وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك.
كمن يقول الآن: هل الأفضل من كان مع علي أو من كان مع معاوية؟ وهل الأفضل الذين كانوا في حزب علي أو في حزب معاوية؟ فهذا ممن يدخل في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يحبه الله.
ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا.
وقال أبو الجوزاء وهو من أئمة التابعين: [[لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إليَّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء]].