قضاءٌ وقدر

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] فليعلم مَن جَهِل، وليدرِ مَن غفل، جف القلم، رُفعت الصحف، قُضي الأمر، كتبت المقادير: {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف:89] {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44].

دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس

سهرت أعين ونامت عيونٌ في شئون تكون أو لا تكونُ

إن رباً كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غدٍ ما يكونُ

واسمع إلى العامي ذي الفطرة الصحيحة يقول:

لا تِشْتِكِ يا واحداً باتْ مهمومْ تَرى الفرح عندِ اقترابِ الحزام

وانْ كان عِيْنَك خالفتْ لذة النومْ إنتَ تنام وخالقك ما ينام

{ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك}.

إن هذه العقيدة إذا رسخت في نفسك، وقرَّت في ضميرك، صارت البلية عطية، والمحنة منحة، وكل الوقائع جوائز وأوسمة، و {مَن يرد الله به خيراً يُصِبْ مِنْه} فلا يصبك قلق من مرض، أو موت ابن، أو خسارة مالية، أو احتراق بيت، فإن الباري قد قدَّر، والقضاء قد حلَّ، والاختيار هكذا، والخيرة لله، والأجر حصل، والذنب غُفر.

هنيئاً لأهل المصائب صبرهم ورضاهم عن الآخِذ المعطي القابض الباسط، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولن تهدأ أعصابك، ولن تسكن بلابل نفسك، ولن تذهب وساوس صدرك حتى تؤمن بالقضاء والقدر، جف القلم بما أنت لاقٍ، فلا تذهب نفسك حسرات، لا تظن أن بوسعك إيقاف الجدار أن ينهار، وحبس الماء أن ينسكب، ومنع الريح أن تهب، وحفظ الزجاج أن ينكسر، هذا ليس بصحيح، على رغمي ورغمك سوف يقع المقدور، وينفذ القضاء، ويحل المكتوب {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].

استسلم للقدر قبل أن تطوَّق بجيش السخط والتذمر والعويل، اعترف بالقضاء قبل أن يداهمك سيل الندم.

إذاً: فليهدأ بالك إذا فعلت الأسباب، وبذلت الحيَل، ثم وقع ما كنت تحذر، فهذا هو الذي كان ينبغي أن يقع: {ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل}.

واسمع إلى الجوائز وإلى الأوسمة وإلى الأُعطيات للصابرين المحتسبين: صح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله يقول: {ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضتُ صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة}.

وقال سبحانه في الحديث القدسي الصحيح: {من ابتليتُه بحبيبتيه -أي: بعينيه- فصبر عوَّضتُه عنهما الجنة}.

وصح عنه عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه قال: {إذا قبض ابن العبد المؤمن قال الله لملائكته وهو أعلم: قبضتم ابن عبدي المؤمن؟ قالوا: نعم.

قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم.

قال: فماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد}.

وانظر إلى الأولياء كيف يصبرون على المقدور: هذا عروة بن الزبير يسافر سفراً طويلاً من المدينة إلى الشام، عروة الذي كان كان يختم القرآن كل أربعة أيام، عروة الذي يقوم ثلث الليل، عروة الذي كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، عروة البحر الذي قال عنه الزهري: لا تكدره الدِّلاء.

سافر إلى الشام؛ ولكنه كان سفراً بعيداً شاقاً حتى إنه قال بعد السفر: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] سافر معه ابنه محمد، وذهب إلى هناك، ونزل في بيت، وأصابته الآكلة في رجله، فوصلت قدمه، فأرادوا بتر القدم فصبر، فسرت إلى الساق فأرادوا بتر الساق فصبر، فسرت إلى الفخذ، فقرر الأطباء بتر فخذه، وقدموا له كأساً من الخمر وهو الولي العالم الصادق الزاهد، فقال: [[أأشرب خمراً؟ قيل له: ليذهب عقلك؛ لئلا تجد ألماً، قال: والله لا أشربها، كيف أُذهب عقلاً منحنيه ربي؟! كيف أرتكب محرماً؟! ولكن إذا دخلتُ في صلاتي، فسوف أنسى ألمي، فاقطعوا رجلي]] فكبَّر واسترسل في صلاته، وسافرت روحه إلى الملكوت العليا، كما قال الأول:

إذا كان حب الهائمين من الورى بسلمى وليلى يسلب اللب والعقلا

فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالَم الأعلى

وبتروا رجله، وأغمي عليه، واستفاق ليقول أول كلمة، وينبس بأول جملة، فيقول: [[اللهم لك الحمد، إن كنتَ أخذتَ فقد أعطيتَ، وإن كنتَ ابتليتَ فقد عافيتَ]] قال له الناس: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك محمد؛ فإنه بينما كانت تُقطع رجلُك ذهب إلى اسطبل الخيل فرَفَسَتْهُ فرس فمات، فعاد مرة ثانية ليبعث رسالة حارة إلى الحي القيوم المتفضل سبحانه ليقول: [[اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا، أعطيتني أربعة أعضاء وأخذتَ عضواً، وأعطيتني أربعة أبناء وأخذتَ ابناً، فأنت المتفضل صاحب الجميل]].

والمرأة السوداء، صح الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى وإذا هي تَصْرَع وتمرض وتتكشَّف، يعيث بها المرض، ويزلزلها ويقلقها، تضطرب منه، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يَعرض عليها الخيار، وهي أمة سوداء؛ لكنها مؤمنة بالله، مسلمة بالقضاء والقدر: {إن شئتِ دعوتُ الله لكِ فكافاكِ، وإن شئتِ صبرتِ واحتسبتِ ولك الجنة، قالت: بل أصبر وأحتسب، لكن ادعُ الله لي ألا أتكشَّف} قال عطاء: [[من أراد أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة فلينظر إلى هذه المرأة السوداء]].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015