رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإغراء والإيذاء، وهما حربان يتعرض لها الداعية دائماً, فأيهما غلبته سقط وهزم وسحق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح نجاحاً باهراً، وانتصر انتصاراً مبيناً في كلا الحربين.
اسمع إلى حرب الإغراء، وأول ما يمارس الطغاة والظلمة حرب الإغراء, إنهم يقدمون الدينار، ويقدمون الجائزة والسيارة الفخمة, إنهم يشترون الضمائر ليبتاعوا بها المبادئ, تعرض صلى الله عليه وسلم لهذا، وأول ما تعرض له الفتاة الجميلة, تعرض على محمد صلى الله عليه وسلم يقول له الوليد: إن كنت تريد زوجة زوجناك أجمل فتاة في مكة , وكانت الزوجة الجميلة طموحاً وهدفاً للعرب في الجاهلية, ولذلك يقول قائلهم عن الفتاة:
أخبروها إذا أتيتم حماها أنني ذبت في الغرام فداها
ويقول جميل:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد
ومجنون ليلى وهو يدعو الله عند مقام إبراهيم, ينسى دعواته ويلتفت إلى تلك الفتاة الجميلة التي سلبت عقله:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
هذه عروبة أبي جهل وأبي لهب المنفصلة عن لا إله إلا الله، محمد رسول الله, لكن ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا، فطموحاته أعظم.
عرض عليه الملك، ليتولى ملكاً على العرب العرباء, وليقود الجزيرة العربية , ولكن الملك مجرداً من الدين أمنية البسطاء, ومبلغ علم الوضعاء, ولذلك جعلته العروبة قبل الإسلام من أقصى أمانيها؛ يقول امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
إما ملك أو موت.
وقال -المهلوس الآخر- المتنبي:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر
هذه هي أمانيهم, وهذه طموحاتهم.
وعرضت عليه الدنيا صلى الله عليه وسلم، فقال له الوليد: وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً لتكون أغنى أهل مكة , ولكن ماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ قال فيما يروى عنه: {والذي نفسي بيده لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركنه أو أهلك دونه}.
لله در مبادئك وطموحاتك وهمتك وعزيمتك!
البدر والشمس في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار
يا فاضح الظلم فارت هاهنا وهنا فضائح أين منها زندك الواري
ومحمد صلى الله عليه وسلم ينتصر، فلما انتصر على الإغراء, تعرضوا له بالإيذاء، وهي المدرسة الأخرى وهو الأسلوب الآخر, السب والشتم: "ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكاذب" يصلي عند المقام صلى الله عليه وسلم، فيضعون السلى على رأسه، فيقوم يحتحت السلى ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
يذهب إلى الطائف جائعاً ظامئاً متعباً ساهراً, فيرد من الطائف بالتكذيب، ويرمى بالحجارة فتسيل أقدامه, ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يتعرض للإيذاء في عرضه، في عائشة الطاهرة, فيصبر ويتحمل, تباع أملاكه في مكة , تصادر كرامته, يؤذى ويشهر به في القبائل, ولسان حاله ومقاله: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
يأتيه ملك الجبال فيقول: ائذن لي أن أطبق على أهل مكة الأخشبين, فيقول: {لا.
إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً}.
وبالفعل أخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة , ومن صلب الوليد خالداً , فنشروا الدين في ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.
ويتعرض صلى الله عليه وسلم لمحاولة الاغتيال, ولكن يتصل بالله، ويعتز به ويستنصر به، فينصره الله نصراً مؤكداً؛ يرتجف في الغار, حوله خمسون شاباً تقطر دماؤهم حقداً وموتاً, يرتعد ويرتجف أبو بكر ويخاف, ويقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا, فيتبسم صلى الله عليه وسلم, من الذي يتبسم في وهج العاصفة؟! هو وحده صلى الله عليه وسلم.
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا} وانتصر وحقق أعظم الطموحات التي ما حققها مصلح في تاريخ مسيرة الإنسان وعبر القرون والأديان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.