وذكر في الآيات أربع إرادات قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79]
انظر هنا كيف قال: (فأردت) ولم يقل (فأردنا) وسوف يأتي (فأردنا) وسوف يأتي (فأراد ربك) وسوف يأتي في الجدار (فأراد أن ينقض) هذه أربع إرادات، لكن هنا في الضمير قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79] بضمير المتكلم، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:80 - 82] ولم يقل (فأردت) مثل الأول ولم يقل (فأردنا) {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
الآن نعود إلى الإرادة الأولى قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] الذي أمره أن يعيب السفينة هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فليس من الأدب أن يقول: فأردنا أو أراد ربك أن أخرب السفينة والله هو الذي قدر الخير والشر -هذا معتقد أهل السنة والجماعة لكننا نتأدب مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في ذكر الشرور والخراب، فلا نقول: إن الله الذي فعل كذا وكذا من باب التأدب؛ لأن خراب السفينة ظاهر عند الناس أحاله على نفسه تأدباً مع الله، وهذا من الوقار والخشية.
قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا}) [الكهف:79] فإذا رآها فسدت لا يأخذها وإذا رآها تكسرت لا يأخذها، لا يأخذ إلا شيئاً صحيحاً، ولا يأخذ إلا آخر موديل، فإذا رآها مكسرة الأخشاب قال: ردوها على اليتامى.
فهذا من الحكمة.
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80 - 81] جمع هنا الضمير لأن في قتل الغلام خراباً ظاهراً ومصلحة باطنة، فالمصلحة الباطنة أن الله يبدلهما خيراً منه، والمفسدة الظاهرة: قتل نفس معصومة، فكأنه يقول: إن كان هناك شيء من الخراب؛ فهو من جانبي وأما الصلاح فهو لله عز وجل فجمع الضمير.
ولما أتى إلى الجدار قال: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] والعرب تنسب الإرادة من باب المجاز أو غيره على قول من قال: أن في القرآن مجازاً، وابن تيمية يقول: ليس في القرآن مجاز.
والعرب تنسب الإرادة أحياناً إلى الجماد، يقول الله عز وجل في سورة يوسف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82] والقرية لا تُسأل، لكن من عادة العرب أنهم يمرون على الأطلال فيقول الشاعر إذا مر على الأطلال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمألِ
وذاك يقول:
وقفت على الأطلال أسألها هل في المحبة والأوطان أحباب
فعلى تلك اللغة كان الله يسأل أهل القرية.
ولما أتى إلى الأخير قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:82] لأنها مصلحة ليس فيها مفسدة، أناس لم يضيفوك؛ فبنيت لهم الجدار فلا فساد، بل صلاح محض، فكانت الحكمة لله، ولذلك انظر إلى تلطف الجن عندما أتوا ليأخذوا الأخبار وقت نزول الوحي، أرصدهم الله عز وجل بالشهب والأجرام السماوية حين تغيرت الأرض والسماء لمبعث الرسالة، فذهبوا يلتمسون الوحي؛ فوجدوا أن السموات قد أغلقت بالحرس، كلما أتى واحد منهم ضرب بشهاب في قفاه وقتله، فأخذوا يتجمعون خائفين ثم أخذوا يقولون: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] (أريد) وما قالوا (أراد) فبنوا الفعل (أريد) للمجهول تأدباً مع الله، ولما أتوا إلى الخير قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] فأظهروا الفاعل هنا، وإبراهيم عليه السلام يقول: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] وإلا فالصحيح أن الله هو الذي أمرضه، ولكن ما قال: والذي يمرضني ويشفين، ولكن قال: إذا مرضت أنا تأدباً مع الله عز وجل.
والله عز وجل ما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً أن يتزود منه إلا العلم فقال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] ولذلك فمن الصحابة من سافر شهراً كاملاً في طلب حديث واحدٍ، كـ جابر بن عبد الله الذي سافر شهراً كاملاً لطلب حديث من مصر، وسعيد بن المسيب سافر ثلاثة أيام لطلب حديث واحد، أما نحن والحمد لله ففي بيوتنا مئات الألوف من الأحاديث والمسانيد والمعجمات والمستخرجات، ولكن قلّت الهمم في القراءة، الإمام أحمد يطوف الدنيا أربعين سنة ويجمع أربعين ألف حديث، وهي مطبوعة ومحققة ومجلدة وموضحة في أدراجنا، فمن يقرأ ومن يستنبط ومن يفهم؟