المأمون العباسي داهية من الدهاة، وطالب علم من العلماء، لكنَّ علمه مشوب بالبدعة، نشأ على أساتذة من أهل البدعة في خراسان وما جاور خراسان، وأتى بغداد ليأخذ الحكم من الأمين والأمين قرشي، أقرب إلى السنة من المأمون، والمأمون أقرب إلى تصريف الأمور من الأمين لأن الأمين صاحب غناء ومجون وسفه، ولكنه من أهل السنة الذين يرجى لهم رحمة الله عز وجل.
أمه زبيدة قرشية، وذاك أمه مولاة من السبي أعجمية، فكتب لهم هارون الرشيد كتاباً، وجعل الأمر بينهم، وجعل الخليفة الأول الأمين، وبعده المأمون، فلما تولى الأمين، وسوست له نفسه خلع أخيه المأمون، وأخذ الكتاب المعلق في الكعبة ومزقه، فدخل ذاك واستولى على بغداد، وبدأ ينشر مذهب الاعتزال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لن يغفل عن المأمون فيما أدخله في بلاد المسلمين من كتب الفلاسفة.
قال المأمون: من ترجم كتاباً من كتب اليونان وزنت له الكتاب المترجم ذهباً وفضة، وأنشأ دار الحكمة وملأها بالألوف المؤلفة من الكتب، وكان له يوم مع المفسرين، ويوم مع المحدثين، ويوم مع الأدباء، ويوم مع الفرضيين، ويوم مع الفلاسفة، ويوم مع أهل علم الكلام، وكان من أخطب الناس، وأسس (دار الحكمة) لينشر ضلاله، في كيسه سم زعاف وعقارب، وفي الأخير بدأ يبث القول بأن القرآن مخلوق -جل الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً- بل كلامه صفة من صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، يتكلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بما يشاء متى شاء، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وقال سبحانه: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فبدأ يبث هذا المذهب وفي الأخير انسحق الكثير أمام هذا الزحف، لأن المأمون بيده السلطة، وبيده السيف والسوط، وعنده الحبس والسجن، وعنده القتل والإبادة، فأظهر الله الإمام أحمد بن حنبل، حياك الله يا أبا عبد الله! وحيا الله اللموع والإشراق، وحيا الله العظمة والقوة.
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى
عرضوا عليه الأكياس من الذهب والفضة ليسكت، قالوا له: " لا تتكلم ونعطيك كل شيء؟ قال: لا، قالوا: نوليك ولاية الوزراء وتكون تحت يديك، تعزل من شئت وتولي من شئت؟ قال: لا، قالوا: أنت عالم الدنيا، ولك ما شئت؟ قال: لا، قالوا: إذاً نقتلك؟ قال: القتل أهون، قالوا: نحبسك؟ قال: الحبس أهون، قالوا: الجلد؟ قال: الجلد أهون.
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لاطفت حتى أحسا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت بالحق نفسا
أطردُ الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
رجل فقير يحفظ ألف ألف حديث، رجل فقير يتكلم بالحكمة، رجل فقير إذا رئي ذُكر الله عز وجل، يدخل السوق وهو نحيل الجسم، منحنٍ من ضعفه وهزاله، وعليه بردة بقيت عليه سنوات لكنه جميل المنهج والمظهر، طيبة رائحته تفوح بالسوق، فإذا رآه أهل السوق باعة الزبيب والتمر والفستق والحمبص، رفعوا أيديهم يقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
استدعي إلى الخلافة، فذهب ولكن وهو في الطريق مات المأمون، وهذا أول انتصار.