قال عليه الصلاة والسلام: {ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة} المعسر: الذي لا يجد سداد الدين أو سداد حقوق الناس، والتيسير: من صاحب دين.
فمثلاً: هو أن تؤجله أو أن تنقص من هذا الحق أو أن تسامح فيه، فالرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: {كان فيمن كان قبلكم رجل أتي به إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ليحاكمه، فلما عرضه أمامه قال: خذوه إلى النار، فأخذته الملائكة إلى النار، فقال عز وجل: ردوه، فلما ردوه قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: هل لك من عمل صالح؟ قال: يا رب! والله ما أتذكر شيئاً إلا أنه كان لي تجارة في الدنيا، فكان إذا أتى لي إنسان أو طلب مني حاجة أتجاوز عنه لعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتجاوز عني، فقال الله: -في غير رواية الصحيحين - فقال الله: ليس أكرم منا هذا اليوم، أدخلوه الجنة} وهذا بسبب أنه يتجاوز عن الناس وقال عز من قائل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فبعض الناس إذا كان له دين على الناس، شق عليهم وأخرج لهم النجوم وسط النهار صباح مساء، بعد كل صلاة وهو عند الباب: أعطوني حقي، أخذتم حقي، وهي مائة ريال أو ألف ريال، وهذا من الذين لا يريدون إنظار المعسرين، وهو في غنى وسعة، وقد جهل هذا أجر الله عز وجل، وقد فاته أجر الثواب من الله عز وجل، وهذا ليس إلا فعل اليهود.
يقولون: اليهود يدينونك ثلاثة أشهر ويأتون ليأخذوا منك بعد شهرين، ولذلك قال ابن جرير في التفسير: " لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم -حول قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] قال ابن سعية: رأيت علامات الرسول صلى الله عليه وسلم -هذا ابن سعية يهودي وقد رأى العلامات في التوراة، رأى العلامات كلها أمام العين في الرسول صلى الله عليه وسلم- إلا في مسألة واحدة، أنه إذا غضِب يزداد حلماً، فما عرف هذه الخصلة فيه صلى الله عليه وسلم، فأراد هذا اليهودي أن يكتشف خصلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا غضب يزداد حلماً فماذا فعل؟ ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا القاسم! - لماذا يقولون: يا أبا القاسم؟ لأنهم لا يعترفون برسالته، إن قال: يا محمد! ليس هذا من الأدب وإن قال: يا رسول الله! شهدوا على أنفسهم، فيقولون: يا أبا القاسم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال: علمت أنك وفدت المدينة وأنا تاجر من تجار اليهود عندي مال فخذ هذا المال حتى يفتح الله عليك، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم المال، وظن أن هذا صادق وأنه سوف يؤجله حتى يفتح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، وبعد أربعة أيام أو خمسة إذا باليهودي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فقام اليهودي وقال: يا بني عبد المطلب! أعطوني مالي إنكم قوم مطل -يعني: أنكم تماطلون وتلعبون بصاحب الدين، انظر إلى الدهاء- فقال صلى الله عليه وسلم: إنك أجلتني حتى يفتح الله علي، قال: لا تماطلني ديني، أعطني حقي يا محمد! إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل، قال في الرواية: فقام عمر بن الخطاب -يقول ابن سعية: فرأيت عيناه تتدحرج في رأسه- وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجلس يا عمر! أنت أولى بأن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن الطلب، ولذلك كان خلق رسول الله جليل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فجلس عمر فقام عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليهودي، وأخذ اليهودي يرفع صوته في المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم، كلما رفع اليهودي صوته كلما تبسم عليه السلام وكلما زاد حلمه، ثم أعطاه فلما أعطاه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله! ما قرأت صفة لك في التوراة إلا وجدتها إلا هذه الخصلة، فوجدت أنها ستثبت هذا اليوم فقد ثبتت.
فأتى إلى اليهود ليخبرهم، قالوا: لا.
أصبح داعية إليهم، فقالوا: ليس بهذا، فقال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قدم المدينة، قال عبد الله بن سلام -أحد اليهود الذين أسلموا، وهو من فقرائهم وعلمائهم وأهل الصدارة فيهم- قال: {فلما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في السوق انجفل الناس إليه، فانجفلت مع من انجفل من الناس -أي: أسرع الناس إليه، وأخذ يدخل بين الناس حتى رأى وجه الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: فلما استثبت منه وإذا بوجهه ليس بوجه كذاب، قال: فدنوت منه، وإذا به يقول للناس -اسمع حتى الكلام كلام رسول، لا يوجد كلام ساقط بل كله كأنه الدر- قال: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا في الليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، قال: فوقع الإسلام في قلبي، فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعت يدي في يده وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله} ما أسلم من اليهود إلا ثلاثة هذا وكعب، وابن سعية قال صلى الله عليه وسلم: {لو أسلم عشرة من أحبار اليهود لأسلم اليهود عن بكرة أبيهم} لكن ما أسلم إلا ثلاثة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10].
فالشاهد من بني إسرائيل عبد الله بن سلام {فأسلم عبد الله بن سلام وقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي: يبهتون الإنسان ولذلك بهتوا مريم البتول عليها السلام- فقال: إن اليهود قوم بهت، وإذا سمعوا بإسلامي بهتوني، فاستدعهم يا رسول الله واسألهم عني، فاستدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعهم أمامه، وابن سلام في مشربة -في غرفة- خلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الرسول لهم: كيف ابن سلام فيكم؟ -وهم لا يدرون أنه أسلم- قالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا وفقيهنا وابن فقيهنا -وألقوا عليه محاضرة في المجلس- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أسلم ورزقه الله الإسلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج يـ ابن سلام، فخرج وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وأحمقنا وابن أحمقنا، فقال ابن سلام: أما قلت لك يا رسول الله؟ قال: نعم.
إنهم قوم بهت} فالتيسير على المعسر هي أن تؤجل له في المدة، أو أن تنقص له من القيمة، أو أن تسامحه، وفي الحديث: {أن أبا قتادة رضي الله عنه وأرضاه -هذا في البخاري - وفد إلى رجل فقال: أعندك سداد لمالك؟ قال: والله ما عندي سداد، قال: أسألك بالله ما عندك من سداد؟ قال: والله ما عندي من سداد، قال: والله لقد عفوت عنك لما لا يوجد عندك من سداد، قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة}.