جاء عالمٌ من علماء المغرب -حاجاً- يريد البيت، فمرَّ على دمشق؛ لأنه يسمع بـ ابن تيمية، وابن تيمية ذكره في أسبانيا وفي بلاد الإسلام، فوصل هذا العالم، والعلماء يقولون: كان العلماء إذا وصلوا إلى ابن تيمية أصبحوا تلاميذه
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا ظهرت لم يبدُ منهن كوكبُ
فوصل هذا العالم، فلما رأى ابن تيمية كتب له سؤالاً يقول فيه: الشيخ الإمام بقية السلف وقدوة الخلف، أعلم من لقيت بباد المشرق والمغرب -ونقول له: حتى لو ذهبت الشمال، أو الجنوب فلن تجد مثله، ولا القارات الخمس- قال الذهبي فيما ينقل عنه: كان أبوه نجماً في العلم -يعني مثل النجم- وكان جده قمراً، أما ابن تيمية فكان شمساً: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12].
ذاك نجم وهذا قمر، وهذا شمس، وإذا أتت الشمس، ذهب القمر والنجم.
قال السائل: أن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتابٍ يكون عليه اعتمادي، في علم الحديث، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب.
-علمني بمكسب يكون منه رزقي ودخلي، لأن الإسلام جمع بين الدين والدنيا، علمني هل أكون نجاراً أو خشاباً، أو مزارعاً، أو بائعاً، ما هي أفضل المكاسب يا شيخ الإسلام - ويقول: كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار.
يقول: انتبه يا ابن تيمية! لا تسهو من قلمك، فتملأ لنا الصفحات وتكتب مجلداً في هذه الوصية؛ لأن ابن تيمية إذا نسي نفسه ذكر من العلم الكثير وكتب في المسألة الواحدة مجلداً كاملاً.
وقد أتاه يهودي بثمانية أبيات ينتقد فيها الشريعة وكان ذلك بعد صلاة الظهر، فقرأ ابن تيمية الأبيات، ثم لف الورقة وجعلها في جيبه، ثم أخرج دفتراً كبيراً وكتب فيه مائتين وأربعين بيتاً، وهي موجودة.
يقول الذهبي: كانت عين ابن تيمية كاللسانين الناطقين من الذكاء والعبقرية، حتى يقول شاعر اليمن في ابن تيمية:
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته يكاد يُخشى عليه من تلهُبِهِ
فيقول السائل: يا ابن تيمية اختصر لنا في الإجابة، فالرجل مسافر وعالم ويريد أن يعود، فاكتب كلاماً بسيطاً قال: "والله تعالى يحفظه" -يعني يحفظ ابن تيمية - "والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته" فأجاب ابن تيمية فقال:
"الحمد لله رب العالمين" -لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ورد عنه أنه قال: {كلُ أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، فهو أبتر} وفي لفظٍ: {بذكر الله} وفي لفظٍ: {باسم الله} وقد ضعفت بعض الروايات لكن في مجموعها تصل إلى درجة الحسن، فهو دائماً يستفتح بحمد الواحد الأحد، وهي مناسبة جيدة، فإنه يحمد الله على نعمة العلم والفهم، ونعمة الفقه في الدين.
ومن هديه عليه الصلاة والسلام في الخطب -كما مر معنا- أنه كان يستفتحها بالحمد لله، والرسائل بالبسملة، فكأن ابن تيمية يخطب الآن بقلمه فيقول الحمد لله رب العالمين، ويقف ويضع نقطة.
أما الوصية: فسوف يفصلها شيخ الإسلام كما وردت في السؤال يقول:
الوصية الأولى: أوصني لصلاح ديني ودنياي.
الوصية الثانية: أرشدني إلى كتاب أقرأ فيه، يكون عليه اعتمادي في علم الحديث.
الوصية الثالثة: نبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات.
الوصية الرابعة: أرشدني إلى أفضل المكاسب التي أستغلها في كسب رزقي، أو ما يدر علي الخير من المكاسب.