ولذلك يقول الشيخ الكبير أبو أيوب الأنصاري الذي استضاف النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن نزل إلى المدينة، فكان له شرف مقدمه عليه الصلاة والسلام؛ يوم أتى إلى أهل المدينة، كما يأتي النسيم العليل إلى صدر المريض، أو كما يأتي الماء البارد إلى كبد الظمآن الشديد الظمأ أو كما تأتي العافية إلى المحموم، دخل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانَها أذانُ بلال
فتسابق الصحابة ليأخذوا رحله عليه الصلاة والسلام، وليكون لهم شرف استضافته صلى الله عليه وسلم، ليتشرفوا برؤيته عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك السبق لـ أبي أيوب.
أتى فأخذ بزمام ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {دعوها فإنها مأمورة} لأنها مسيَّرة في خدمة دعوة لا إله إلا الله، فلما نزل صلى الله عليه وسلم، سبق أبو أيوب إلى رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم للناس وهو يبتسم: {المرء مع رحله} ثم قام باستضافته، وانتهت حياة أبي أيوب، لكن إيمانه لم ينتهِ، وحين كَبُر وشاخ، وأصبح يدبُّ على عصا كان إيمانه وقلبه شابين لم يهرما ولم يشيبا، فكثير من الناس شابٌّ، ولكنه كهل في تفكيره وإيمانه، وكثير من الناس قوي في جسمه، ولكنه هزيل ضعيف في يقينه وإيمانه: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
فقال أبو أيوب للصحابة - وهو في دمشق -: [[خذوني فوالله لأقاتلنَّ معكم الروم - وقد نيف على مائة عام - قالوا: كيف نأخذك وقد عفا الله عنك وعذرك عن الجهاد، قال: لا.
إني سمعت الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وأنا ثقيل فوالله لأنفرنَّ]] فلما وصل إلى أبواب القسطنطينية، قال: [[اللهم لا ترجعني من هنا وادفني في هذا المكان، حتى تبعثني يوم القيامة، بين قوم كفار، أقول بينهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك]] ولبَّى الله له ما سأل؛ لأنه كان صادقاً، فلما انتهت المعركة، مات ودفن عند أبواب القسطنطينية، وهو مدفون هناك، وأرضه ومنزله في طيبة الطَّيِّبة؛ لكنه دفن في القسطنطينية ليشهد الإنسانية أننا حملة رسالة.