الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأسعد الله لياليكم بالمسرات، درسنا هذه الليلة بعنوان: (صحيح الأخبار في وصف النار) نعوذ بالله من النار، وقد سبق معنا في الدرس الماضي، وصف الجنة في الكتاب والسنة، وقد ذُكر هناك ما أعد الله عز وجل لأوليائه في الجنة من نعيم خالد، وما هيأ لهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى من نعيم مقيم، فوصف أبواب الجنة وسررها، ولباسها وما فيها من خير عميم، وكيف يدخلها أهل الجنة، وكم صفوفهم، وما هي أزواجهم، وما هو طعامهم، وشرابهم، ومن أول من يدخل الجنة، ورؤية الله عز وجل إلى مسائل أخرى.
وفي هذه الليلة نأتي إلى بحث عن النار أعاذنا الله وإياكم من النار، وجنبنا كل قول أو عمل أو فعل يدلنا على النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن آحاد المجرمين: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:30 - 37].
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30]: الغل جمع اليدين وراء الظهر، وقيل: جمعها عند الذقن بالسلاسل.
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: أصلوه نار جهنم التي تتلظى، لا يراها راء أو يدخلها داخل إلا سقطت فروة وجهه في النار.
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]: يسلك فيها سلكاً حتى تخرج -والعياذ بالله- من فمه ودبره، فتمر مروراً كلما انتهت تعود من أوله.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] فتقلب يمنة ويسرة: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:66 - 67] وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74 - 75].
والخلود هنا لغير الموحدين، أما عصاة الموحدين فلا يخلدون في النار، فقد يدخلون النار فمنهم من يمكث ألف سنة ومنهم من يمكث مائة سنة، ومنه من يمكث سنة، نعوذ بالله من النار.
وعقيدة أهل السنة -كما مر معنا في درس بعنوان: (عقيدتنا) أنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار، بل ربما دخلوها ثم أخرجوا، كما سوف يأتي معنا في بحثنا هذه الليلة إن شاء الله.
وقال سبحانه: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:21 - 30].
وهناك أمور تصرفنا عن نار جهنم أذكرها بحول الله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] وقال سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:6 - 11].
أيها المسلمون! اسمعوا إلى أخبار الصالحين وهم يتعوذون من النار: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66] فقد وصف الله الصالحين بأنهم يتعوذون من عذاب النار، وأنهم يسألون الله أن يصرف عنهم عذاب النار، فوالله لا ضنك ولا أسى ولا لوعة إلا في النار، والفائز من زحزح نفسه وأنجى نفسه من النار، اللهم نجنا من النار.
ذكر أهل العلم بأسانيد جيدة أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت تردد الآية من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28] قال أحد الرواة أظنه مسروق أو الأسود بن يزيد يقول: [[سمعت عائشة ترددها في صلاة الضحى وتبكي فذهبت إلى السوق وعدت، فأتيت وهي تبكي وترددها]].
وأما ابن عمر فذكر عنه صاحب الزهد وكيع بن الجراح، أنه قرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] فبكى حتى أُغمي عليه ورش بالماء.
وابن وهب ذكر عنه الذهبي في المجلد الثامن في السير أنه سمع ابنه يقرأ: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] فأغمي عليه حتى حمل على أكتاف الرجال.
أما ابن تيمية فيذكر عن علي بن الفضيل بن عياض أحد الصالحين الزهاد الكبار، قام أبوه يصلي بهم في الحرم فقرأ سورة الصافات، وكان ابنه علي من أخشى الناس لله، وكان وراءه في الصف فقرأ الفضيل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] فأغمي على ابنه وحمل إلى البيت، فحركوه فإذا هو قد مات، وقد ذكرها ابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وهي قصة صحيحة، فهذا خوف السلف.
جاء رجل من الأعراب إلى عمر، قال: يا عمر! الخير لتفعلنه قال: فإن لم أفعل؟! قال: لتفعلنه أو لتكرهنه، قال: فإن أكرهت، قال: أما تخاف النار؟ -وهذا في كلمة طويلة في أبيات ذكرها أهل التاريخ، فبكى عمر - وقال: بلى والله أخاف النار.
وأبو بكر وعثمان وعلي، كانوا من أخشى الناس لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وكان أحدهم إذا ذكر النار زفر زفرة، ولاع لوعة، وتذكر ذكرى وكان لذكرهم فائدة في عملهم وخشيتهم وصدقهم لله، ونريد من هذه الأمور أن تتحول إلى أعمال صالحة في حياتنا ومراقبتنا لله تبارك وتعالى.