فيا من أتاه نذيره في لحيته وفي رأسه! أما أتاك النذير؟ أما اقتربت من القبر؟ أما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من حفرة مظلمة؟ ماذا فعلت في آخر الحياة؟ بماذا تختم صحيفتك؟ بماذا تلقى الله يوم العرض الأكبر؟
يا أيها الشيخ الكبير! ألا راجعت سجلاتك مع الله؟ ألا عدت إلى صحائفك مع الواحد الأحد؟ هل علمت أنك أخطأت في أول العهد؟ هل علمت أنك كذبت أو غششت أو زنيت أو قتلت أو رابيت؟ هل تبت إلى الله توبة نصوحاً؟
يقول سفيان الثوري أحد علماء الإسلام: [[من بلغ الستين سنة فليشترٍ كفناً]] ويقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {من بلغه الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه} أي: قطع عذره وحجته، ما حجتك عند الله أيها الشيخ إذا لقيت الله؟ أتقول: يا رب! لو أمهلتني أتوب، إلى متى يمهلك؟! تقول: يا رب! لو أخرتني لعدت إليك، إلا متى يؤخرك؟!
فيا أيها الشيخ الكبير! اتقِ الله، واستغفر الله، وتب إلى الله واشتر لك كفناً.
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال يجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
وقف شيخ كبير السن من بني إسرائيل أمام المرآة -وكان في عهد بعض الأنبياء- وقد عَبَدَ الله أربعين سنة، ثم أدركه الخذلان، فانحرف وعصى الله أربعين سنة، فلما أصبح في الثمانين نظر إلى المرآة فرأى شيبة في لحيته، قال: يا رب! أطعتك أربعين سنة، ثم عصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني إذا عدت إليك؟ سبحان من عطاؤه ممنوح! سبحان من رزقه يغدو ويروح! سبحان من بابه مفتوح!
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزال مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
عند الترمذي بسند صحيح: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} فأتى هذا الشيخ وقال: يا رب! أطعتك أربعين سنة ثم عصيتك أربعين سنة فهل تقبلني إذا عدت؟ فسمع قائلاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإذا عدت إلينا قبلناك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرارِ
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبتُ في الرق فاعتقني من النارِ
هل من شائب وشيخ كبير رأى لحيتَه؟ والله إن من أعظم النُّذُر ومن أعظم ما ينذركم بالموت والفراق: هذا الشيب.
مر الإمام أحمد، إمام أهل السنة والجماعة -رضي الله عنه، يحفظ ألف ألف حديث (مليون) - مر على شباب فقالوا: ما هذا الشيب يا أبا عبد الله؟ قال: والله ما مثَّلْتُ الشبابَ إلا بشيءٍ كان في إبطي أو في يدي ثم سقط مني.
وأبو العتاهية نظر إلى لحيته -هذا الزاهد الشاعر- فوجد الشيب قد غطاها فقال:
بكيت على الشباب بدمع عينٍ فلم يغن البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ
ماذا فعل بك؟!
أرقد روحك وأسكت قلبك، تشرب الماء لكن ليس له حلاوة وطلاوة كالماء الذي تشربه في الصبا، ترى الجمال فلا تهش للجمال، يومك قليل، وأكلك قليل، منزوي الظهر، محدودب الفقرات، فهل فكرت في تلك الحفر؟!
ومر شيخ كبير على شباب ولحيته بيضاء، فقال له بعض الشباب: مَن باعك هذا القوس؟ - يعني: اللحية البيضاء - قال: أعطانيه الدهر بلا ثمن، وسوف يعطيكم مثله بلا ثمن.
فيا أيها الشيخ الكبير: وصيتي لك تدور على أمور:
الأمر الأول: أكثر من التوبة والاستغفار، اجعل حياتك ونهارك وليلك توبة واستغفاراً، إذا اقتربت الركاب من مكة للحجاج هشت وبشت وأسرعت، وأنت اقتربت من وادي المنحنى، ومن الحفرة المظلمة، ومن لقاء الله، إذا اقترب أهل الوفادة من بيوتهم رأت رواحلهم بيوتهم فأسرعت، وكان صلى الله عليه وسلم إذا اقترب من المدينة آيباً هش وأسرع حتى يدخل المدينة فأنت على أبواب المدينة، اقتربت من دخول المدينة، إما جنة وإما نار {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].