حرص ابن عباس على معرفة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته

وفي ليلة من الليالي -والحديث في الصحيحين - أحب أن يرى ما هو برنامج الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، لأنه يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، ويراه في الحج، ويراه في العمرة، لكن أحب أن يرى ماذا يفعل عليه الصلاة والسلام في البيت، فتوخى ليلة ميمونة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها خالته، فدخل بعد صلاة العشاء مباشرة، وأتى عليه الصلاة والسلام وابن عباس في الفراش وتلحف باللحاف، وتظاهر أنه نائم ولم ينم.

نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك

أراد أن يأخذ أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه الصلاة والسلام فرآه، وكانوا ينامون مبكرين بعد صلاة العشاء، فقال لـ ميمونة: نام الغليم؟! والغليم تصغير الغلام للتحبيب يقول: قليبي تصغير قلبي للتحبيب، قالت: قد نام يا رسول الله! هذا الحكم على الظاهر وإلا فهو في الباطن ما نام، بل هو يسمع وينقل لنا هذه الكلمات بعد موته صلى الله عليه وسلم قال: فأتى عليه الصلاة والسلام إلى فراشة فذكر الله، وهلل وكبر ودعا، ثم سبح قال: فأخذ يسبح هوياً من الليل، أي: كثيراً من الليل، يسبح وهو على الفراش، لأنه أخشى وأبر من أوجد الله على الأرض، وأكرم من صور الله، قال: ثم نام حتى سمعت غطيطه، وفي رواية البخاري خطيطه، يعني: من النوم، وبقي ابن عباس يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم نائم، قال: فقام بعد أن نام جزءاً من الليل فجلس، ما كان عندهم سُرج ولا كهرباء، بيت من طين إذا نام الإنسان فيه كان رأسه في طرف البيت ورجلاه في الطرف الآخر، ولكنه بيت من حول مجرى الإنسانية، ومن هدى البشرية، وزعزع كيان الوثنية، بيت أشرف من صوّر الله وخلق، لأن الدنيا لا تساوي عنده شيئاً، فقد أتى جبريل عليه السلام بخزائن الدنيا من ذهب وفضة، وقال: أتريد أن أدعو الله أن يحول لك هذه الجبال ذهباً؟ قال: لا.

أشبع يوماً وأجوع يوماً حتى ألقى الله.

قال ابن عباس: فاستيقظ صلى الله عليه وسلم والدنيا مظلمة، فأخذ ينظر إلى السماء صلى الله عليه وسلم ويقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].

إلى أن ختم العشر الآيات، وانظر إلى هذا الذكي اللماع كيف يحفظ الآيات والأدعية، والحركات والسكنات، وعمره بين الثامنة والعاشرة، ثم قام عليه الصلاة والسلام وابن عباس يرقب بسمعه وبصره وقلبه، قال: فخرج عليه الصلاة والسلام، ثم أتى، خرج لحاجته يريد الوضوء، فقام ابن عباس إلى شن معلق بالبيت -قربة- فسكب ماء؛ لأنه من فقهه أن من خرج لحاجته يريد ماء، فسكب في الإناء ثم وضعه ثم عاد فنام، فأتى عليه الصلاة والسلام وهو يذكر الله، فنظر إلى الماء وإلى الإناء، فقال: من وضع لي الإناء؟ يسائل نفسه لأنه في الليل وحده، ثم عرف أنه ابن عباس فقال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} من الذي يدعو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، فهي دعوة مستجابة، فاستجاب الله له في تلك اللحظة، لأنه أبر الخلق، فقام فتوضأ عليه الصلاة والسلام، ثم أتى إلى المصلى وابن عباس لا زال يحفظ الحركات، والأدعية، والكلمات، قال: فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال: {اللهم ربنا لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت}

من يستطيع أن يستوعب مثل هذه الكلمات؟! ثم أخذ يدعو فحفظ ابن عباس، فلما استمر في الصلاة قام ابن عباس فتوضأ ثم أتى عن يسار الرسول صلى الله عليه وسلم، والسنة أن المأموم المنفرد يقف عن يمين الإمام، لكن ابن عباس أتى عن يسار المصطفى عليه الصلاة والسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم حرك يده ثم وضعها على أذن ابن عباس ففرك أذنه وهو غلام صغير، ثم حوله عليه الصلاة والسلام حتى وضعه عن يمينه في الصلاة، فصلى عليه الصلاة والسلام ما شاء أن يصلي، واستمر معه هذا الفتى وظفر بدعوة، ونستفيد من تلك الليلة أموراً:

منها: أن لقيام الليل دعاءً خاصاً، وهو هذا الدعاء الثابت في الصحيح.

ومنها: أن دعاء الاستفتاح فيه خلاف تنوع لا خلاف تضاد، فلك أن تدعو بما ورد في السنة من أدعية الاستفتاح.

ومنها: أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام لا عن يساره.

ومنها: أنه لا بأس بالحركة اليسيرة في الصلاة للحاجة.

ومنها: كما قال ابن حجر: أنه لا بأس بفرك أذن المتعلم من يد المعلم؛ لأنه أزكى له أن تفرك أذنه، لكن فرك في حدود المعقول، فلا تفركها حتى يخرج الدم فيتوب ألا يفهم، هذه بعض فوائد الحديث.

فخرج ابن عباس تلك الليلة وبدأ تأثير الدعوة في حياته: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} تستمر معه، كان لا يُسأل عن آية من آيات الله في المصحف إلا وينفجر كالبحر من العلم، يقول أحد تلاميذه: وقف ابن عباس يوم عرفة في الحج عند الصخرات على ناقته قال: فبدأ والحجيج أمامه ألوف مؤلفة يفسر سورة البقرة من صلاة الظهر إلى صلاة المغرب ما تلعثم، ولا سعل، ولا تنحنح، ولا توقف، قال: والله الذي لا إله إلا هو لو سمعته اليهود والنصارى لأسلموا عن بكرة أبيهم، يتفجر كالبحر ومن يوقف البحر إذا انفجر؟! كان من أفصح الناس، زد على ذلك أنه كان من أجمل الناس، قال عطاء بن أبي رباح أحد تلاميذه: والله الذي لا إله إلا هو لقد نظرت إلى القمر ليلة أربعة عشر في السماء وإلى وجه ابن عباس، فوالله الذي لا إله إلا هو لوجه ابن عباس أجمل من القمر ليلة أربعة عشر، كأن نوراً يتلألأ على وجهه من الحسن.

وكان كذلك رجلاً ذا لباس حسن، وفيه أن الإسلام لا يعترف بالدروشة؛ إنسان يريد أن يستقيم وقد أمده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بثياب ولباس حسن، فيأتي ويأخذ مقطعات من عهد السلطان عبد الحميد ويقول: هذا هو التواضع والزهد، أسأل الله أن يرفع لي درجتي!! لا.

لا يعترف الإسلام بهذا، فهذا ابن عباس كان من أخشى الناس، وكان يلبس بردة حمراء مخططة بألف دينار، ووجهه كالقمر، ثم يتطيب الطيب حتى يقول أحد التابعين: رأيت على رأس ابن عباس طيباً لو كان لأحد لكان مالاً، أي: ميزانية؛ لأن الله عز وجل مده بالمال والعلم، فكان يخرج على الناس بالبردة حتى أنكر عليه الخوارج وقالوا: كيف تلبس هذا؟ لأن الخوارج كانوا يلبسون ثياباً ممزقة، ويحتقر الصحابة صلاتهم إلى صلاتهم، وقراءتهم إلى قراءتهم، لكن لا فهم عندهم ولا استنباط، ولا فقه في الدين قال: أنا أفهم أم أنتم بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: أنت، قال: فلقد رأيته في البرود الحبرة التي تساوي كذا وكذا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015