واستمر أبو بكر رضي الله عنه في الخلافة سنتين وستة أشهر وقيل أكثر أو أقل، لكنه ما بقي إلا فترة وجيزة، ومع ذلك فقد أنجز فيها منجزات نذكر بعضها ثم نخلص بدروس بعد ذلك إن شاء الله.
منها حروب الردة فقد ارتدت العرب أو أكثرها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوم من العرب يقولون: الرسالة قد انتهت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله قد ماتت، وقوم يقولون: الكتاب هذا قد انتهى بموت هذا الرسول ولو كان رسولاً حقاً ما مات، فارتدوا على أعقابهم كافرين، وطائفة من العرب ما ارتدوا وإنما أنكروا الزكاة، قالوا: كانت تدفع للرسول عليه الصلاة والسلام وقد مات، إذاً فلا ندفعها، حتى يقول شاعرهم:
رضينا رسول الله إذ كان بيننا فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر
أيملكها بكر إذا قام بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فقام أبو بكر في يوم الجمعة وقال: [[ما رأيكم في من منع الزكاة؟ فقام عمر وقال: لا نقاتلهم ونأخذهم بالتي هي أحسن، وقال للصحابة: ما رأيكم؟ فقالوا: لا نقاتلهم، وقال للمسلمين من المهاجرين والأنصار: ما رأيكم؟ قالوا: لا نقاتلهم، وقال للعرب من المسلمين: ما رأيكم؟ فقالوا: لا نقاتلهم، فقام رضي الله عنه وسل سيفه وصعد المنبر وقال: والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، فقال عمر: فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم علمت أنه الحق]] فقاتلهم وانتصر عليهم رضي الله عنه.
ومضى في زهدٍ وعبادةٍ، وفي تقوى لله، وكان رضي الله عنه يتميز بالخشية كما تقدم، فإنه يقوم يصلي بالناس فلا يدرون ما يقول من البكاء.
وفي صحيح البخاري لما مرض صلى الله عليه وسلم مرض الموت قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس} فتقول بنت أبي بكر عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام لم يسمعه الناس من البكاء، قال: {مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس}.
وحضرت أبا بكر الوفاة فمرض حتى مات يوم الإثنين، وفيه قال: متى توفي الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: يوم الإثنين، قال: ما هو هذا اليوم؟ قالوا: يوم الإثنين، فقبض في ذاك اليوم، ولما أتته سكرات الموت أتته ابنته عائشة فاقتربت منه وقالت: يا أبتاه! صدق الأول يوم يقول:
لعمرك ما يغني الثواء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها مغضباً وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [قّ:19 - 22].
وقال: إذا أنا مت فاذهبوا ببغلتي هذه، واذهبوا بثوبي إلى عمر وقولوا لـ عمر: يا عمر! اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي، فذهبوا إلى عمر بالبغلة والثوب -هذا ميراث أبي بكر من الدولة الإسلامية، هذا الذي خلفه من تراثه وتجارته وكان أتجر الناس، لأنه قدم كل شيء في سبيل الله- فبكى عمر حتى جلس وقال: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.