وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم}.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {تقبلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة}.
أما الحديث الأول، حديث أبي هريرة؛ فإن الأقرع بن حابس وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه في السنة التاسعة، وهو من وفد بني تميم السابق، وهو سيد من ساداتهم أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم يتألفه مائة ناقة في حنين، مع أناس آخرين من وجوه الناس وصناديد الناس، وترك الأنصار وهم الذين قاتلوا معه في الغزوات رضي الله عنهم وأرضاهم.
فلما أعطى هؤلاء المشركين الذين دخلوا الإسلام قريباً اجتمع الأنصار، وقالوا: {غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي هؤلاء الكفار، وسيوفنا تقطر من دمائهم ويتركنا، فذهبت هذه المقالة وشاعت حتى وصلت الرسول عليه الصلاة والسلام، فدعا سعد بن عبادة، وقال: يا سعد! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: ما هي يا رسول الله؟ فأخبره، قال: هو كما سمعت يا رسول الله، قال: كيف أنت من هذه المقالة؟ -أتقرها أو تنكرها؟ لأنه كان سيدهم- قال: وهل أنا إلا من قومي يا رسول الله} يقول دريد بن الصمة:
وهل أنا إلى من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
أمرتهم وأمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
قال: {اجمعهم لي في الحديقة ولا يأتي غيركم -وهي حديقة كبيرة كالبستان- فاجتمع الأنصار رضوان الله عليهم، فاجتمعوا، فقام عليه الصلاة والسلام، فأشرف؛ فسلم عليهم، قال: هل أحدٌ من غيركم معكم، قالوا: معنا فلان أمه منا، قال عليه الصلاة والسلام: ابن بنت القوم منهم، ثم قام عليه الصلاة والسلام فتكلم، فقال: يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ أما أتيتكم فقراءً فأغناكم الله بي؟ أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ فأخذوا يقولون: لله المنة، لله المنة، لله المنة -وفي بعض الألفاظ، لله المنة ولرسوله- فقال: يا معشر الأنصار! والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا مخذولاً فنصرناك، وأتيتنا فقيراً فأغنيناك} ثم رفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: {يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ والله! لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، فأخذوا يبكون حتى اخضلَّت لحاهم، ثم قالوا: رضينا بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً}.
فـ الأقرع هذا صاحب المائة الناقة أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فرأى صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن، فيقول الأقرع: تقبلون الأبناء عندكم، وكأنه اكتشف شيئاً جديداً!! أي: عندنا لا نقبل الأبناء، ويبشر الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: عندي عشرة من الأبناء ما قبلت واحداً منهم، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما أشجعك! أو ما أصبرك! فيقول صلى الله عليه وسلم: {أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ} فالرسول عليه الصلاة والسلام يقبل الأطفال، وهو شاهد الحديث من الترجمة للبخاري.
والأقرع بن حابس أعرابي من بني تميم فيه جلافة رضي الله عنه وأرضاه، وقد أسلم وحسن إسلامه، فالمقصود أن فيه جفاءً، ونحن نقدر كل من أسلم ولو صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة، لكن الجفاء لا زال فيهم، وقد وصفهم الله بذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] فهذا أمر.
فقضايا الحديث تدور على أن من الرحمة ملاطفة الأطفال والأهل ومداعبتهم وممازحتهم، ولا يعارض ذلك التقوى؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يكون المتقي متقياً وهو يمازح في مجلسه الأطفال؟ أتقى وأخشى وأعلم وأخلص الناس مازح ولاعب الأطفال وهو في التقوى لا يوصل إلى مرتبته عليه الصلاة والسلام.