وهم أهل القرآن، وهم أحباب الله وخاصته، كما في الحديث الذي رواه ابن مسعود، وابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه من هؤلاء الخواص، وما كل أحدٍ من الناس يوفق لمحبة الله عز وجل، فبعض الناس يسعى إلى بعض البشر، ليأخذ وينال محبتهم وتقديرهم، وينال رضاهم وإعجابهم، والله عز وجل هو الحبيب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي حبه ينفع ومدحه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينفع، كما في الحديث أن وفد بني تميم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينادونه من وراء الحجرات ويقولون: مدحنا زينٌ وذمنا شين، فخرج عليه الصلاة والسلام قال: لا.
الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي مدحه زين وذمه شين، فهو إذا أحب العبد سبحانه قربه ونجاه، وجعله من الصلحاء في الدنيا والآخرة، وإذا كره العبد مقته وأذله وأخسأه وحقره، وطرده وأبعده فلا ينفعه الناس جميعاً.
ولذلك معاوية رضي الله عنه وأرضاه، عندما كتب إلى عائشة: [[أن اكتبي لي موعظة وأوجزي، فكتبت له أمَّا بَعْد: فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس}]].
وهذا معروف، فإن الحب لا ينزله في القلوب إلا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا ينشر القبول إلا الله.
ولذلك يقول البخاري في كتاب الرقاق: (باب المقة من الله) والمقة معناها: الحب، ثم أورد الحديث الصحيح الذي اتفق عليه الشيخان، واللفظ للبخاري: {إن الله عز وجل إذا أحب العبد نادى يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} وبمفهوم المخالفة من يبغضه الله عز وجل يخبر جبريل أنه يبغضه فيبغضه جبريل ثم تبغضه الملائكة، ثم يوضع له البغض في الأرض.
وابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه من أحباب الله، يقول كما في الصحيحين: {قال لي عليه الصلاة والسلام: اقرأ عليَّ القرآن، قلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري} فـ ابن مسعود يستحي من معلم الخير، فهو تلميذٌ من تلاميذه وطالبٌ من طلابه، والقرآن إذا وفق بعبدٍ صالح بصوت محزن وبخشية كان له التأثير العجيب في النفوس، يؤثر ما لا تؤثره المحاضرات ولا الخطب ولا الأمسيات ولا كثرة الكلام، لأننا أصبنا بترف في الكلام، وبتخمة في المقال، فكم يتحدث وكم يتكلم، لكن التربية ليست التربية كما كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يسمعهم القرآن غضاً طرياً كما أنزل.
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: {من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأه على قراءة ابن أم عبد} وهذه البشارة التي ذهب بها أبو بكر إلى ابن مسعود وسابقه عمر بها إلى ذاك الرجل رضي الله عنه وعنهم جميعاً، قال عليه الصلاة والسلام: {اقرأ عليَّ القرآن} فيخجل ابن مسعود، لأنه حسنة من حسنات الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان راعي غنم؛ لكن الإسلام إذا علَّم الرجال جعل كل رجلٍ أمة من الأمم، ولذلك كان يقول أحد السلف أن ابن مسعود أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، كان مولى لهذيل يرعى لهم الغنم، فلما علمه صلى الله عليه وسلم القرآن صار أعجوبةً في الإسلام، فبدأ يقرأ القرآن من سورة النساء، حتى بلغ قوله سبحانه تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] أقبلت دموعه صلى الله عليه وسلم، دموع التأثر والخشية، لأنه أعرف الناس وأعلمهم بالله، وأقرب الناس إلى الله.
ولذلك يقول البخاري في كتاب الإيمان، (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بالله) وهذا حديث له صلى الله عليه وسلم، يدل على أن معرفة القلب عمل، فهو يرد على المرجئة الذين يقولون: يكفي اعتقاد القلب عن العمل، فيرد عليهم بأن الاعتقاد يدخل في العمل، وأن الدين كله عملٌ، اعتقاد وقول وعملٌ.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم لما سمع هذه الآية وقال: {حسبك الآن، قال: ابن مسعود فنظرت فإذا عيناه تذرفان عليه الصلاة والسلام} وابن مسعود يتشرف ويذكر نعمة الله عز وجل عليه، فبماذا يذكر نعمة الله هل يقول: إنه من أسرة بني عبد شمس؟ أو من بني عبد الدار، أو بني هاشم؟ لا.
هل يتمدح بماله؟ لا مال.
هل يتمدح بجسمه؟ لا.
جسمه كالطائر، يوازي الإنسان وهو جالس.