وهذه المسألة تساقطت فيها عمائم الأبطال، وتكسَّرت فيها النِصال على النِصال، وكتب ابن تيمية فيها ما يقارب سبعين صحيفة، تكلم فيها وأبدى وأعاد، ورأيه معروف.
العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقسام، ولا بد أن نعرض الخلاف ثم الراجح إن شاء الله:
القسم الأول: قوم يقولون: يقرأ بالفاتحة في السرية والجهرية دائماً وهم الجمهور.
القسم الثاني: قوم قالوا: لا يقرأ في السرية ولا في الجهرية وهم الأحناف.
القسم الثالث: قوم يقولون: يقرأ في السرية وأما في الجهرية فلا يقرأ، وهو رأي ابن تيمية شيخ الإسلام.
أما دليل الذين قالوا: يقرأ في السرية والجهرية، فحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه المتفق عليه: {لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} والحديث الآخر في مسلم: {صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ خداج خداج} وقيل: خِداج خِداج خِداج أي: باطلة، فهذا دليل من قال يقرأ في السرية والجهرية.
وأما الأحناف فدليلهم على أنه لا يقرأ في السرية ولا في الجهرية وراء الإمام، حديث {من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة} وهذا الحديث رواه البيهقي، والدارقطني، وهذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: تتبعته من جميع طرقه فوجدته ضعيفاً، فهذا لا يصح بحال.
فهذا دليلهم، وقد ضعَّفه ابن حجر في بلوغ المرام وضعفه الأئمة مثل الدارقطني، والبيهقي، والحاكم، وابن حبان.
واستدل ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] قال: فالفاتحة قراءة فكيف تقرأ والإمام يقرأ.
إذاً فما هو الراجح في هذه المسألة وفي هذه الأقوال الثلاثة؟
أولاً: نبدأ بقول ابن تيمية: إذا صليت في الجهرية فلا تقرأ شيئاً وراء الإمام، لا تستفتح ولا تتعوذ، ولا تقرأ الفاتحة، ولا تقرأ سورة، وإنما تستمع لقراءة الإمام، إلا في حالة واحدة وهي إذا كنت لا تسمع شيئاً كأطرش فليقرأ الفاتحة، أو كنت في مكان لا تسمع قراءة الإمام فاقرأ، واستدل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وبقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا قرأ الإمام فأنصتوا} وهذا الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود وهو صحيح.
ورد عليه المحدثون وهو رأي الجمهور، وألف فيه البخاري كتاباً اسمه: القراءة خلف الإمام، وهو كتاب مجلد مطبوع، فقال: تقرأ، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقوله عليه الصلاة والسلام: {صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج} أي: باطلة، فهذان الحديثان عامان في السرية والجهرية، واستدلوا كذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في سنن النسائي عن البراء بن عازب أنه قال: {صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلَّم قال: هل قرأ منكم أحدٌ معي؟ قال رجل: أنا يا رسول الله! قال: ماذا قرأت به؟ قال: قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أقول مالي أنازع القرآن} أنازع أي: أجاذب؛ لأن من يرفع صوته خلف الإمام يشوَّش عليه، فلا يستطيع الإمام أن يكمل أو يقرأ، حتى إن بعض الأئمة إذا تنحنح المأمومون وأكثروا أخطأ في الصلاة، وهذا من التشويش والمنازعة.
فقال عليه الصلاة والسلام: {إني أقول مالي أنازع القرآن، من كان قارئاً فليقرأ بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} ولا يزد على ذلك، وهذا هو الرأي الموجه وهو الذي دلت عليه -إن شاء الله- هذه الأدلة الواردة، وقد رجَّحه كثير من العلماء الآن في اللجنة الدائمة للإفتاء، وإن شاء الله أنه هو الموجَّه، وأما ابن تيمية فيعتذر له، وهو مشكور ومأجور في المسألة، ومن ذهب إلى رأي ابن تيمية؛ لأن عنده حديثاً فهو مأجورٌ أيضاً.