وهي مسألة شهيرة، وهي من المسائل الغامضة والتي خاضها كثير من أهل العلم وهي مسألة: ما تدرك به صلاة الجماعة؛ وهنا وقفة بسيطة أو كلمة بين قوسين: العجيب أن ابن تيمية رحمه الله هذا المجدد العظيم، يأتي إلى هذه المسائل الدقيقة فيبحثها بحثاً موسعاً ويكتب في بعضها مائة صفحة، حتى إن الذي لا يعرف حياة ابن تيمية يقول: ابن تيمية لم يعرف إلا هذه المسائل، لكنْ إذا نظرت إلى ابن تيمية في مجال الدعوة فإذا التاريخ يمشي مع ابن تيمية، وإذا تأملته في الجهاد فإذا هو الذي نُصب للجهاد، وهو الذي قمع -بإذن الله وبمعونة الله- التتر المغول.
فهذا الشخصية المكتملة تطلب من المسلم ألا يتبجح بشيء، ولا يستهين بشيء؛ لأنه قد تأتي طائفة في المجتمع يقولون: إن الناس يُقتلون، والإسلام يُنتهب، وأنتم في مسائل بمَ تدرك صلاة الجماعة؟ وكيف يُغتسل من الجنابة؟ وكيفية المضمضة والاستنشاق، وكم تحيض المرأة وكم تعتد؟ لكن من عظمة الإسلام أن يعالج هذه المسائل وأن يدقق معها، ثم إنه لا ينسى تلك المسائل الكبرى، فمن الذي أتى بهذه المسائل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن الذي جاهد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن الذي حكم بالعدل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد من هذه المسائل جميعاً، حتى المسائل الدقيقة في الحيض لا بد أن تدرس وأن تفهم للناس.
ثم المسائل الكبرى: مسائل العقيدة، مسائل الجهاد، مسائل توحيد كلمة المسلمين لا بد أن تدرس كذلك، فهذه كلها مطلوبة، وإنما ذكرت هذا؛ لأن مثلي من المقصرين قد يمرُّ على ترجمة ابن تيمية فيقرأ عنه في هذه الجوانب فإذا هو يعيش حياة فيها، وإذا هو في الجهاد، وإذا هو في الزهد، وإذا هو في العبادة فرضي الله عنه وأرضاه.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أدرك من صلاة الفجر سجدة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك من صلاة العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة} وهذا لفظ مسلم، وفي لفظ: ركعة.
قال الأحناف: تدرك صلاة الجماعة بالتشهد، فإذا دخلت في التشهد قبل السلام فقد أدركت الجماعة، وقال أهل التحقيق من المحدثين وعلى رأسهم ابن تيمية: تدرك صلاة الجماعة بركعة ولا تدرك بأقل؛ فمن أدرك ركعة مع الإمام ومع الناس وهم يصلون فقد أدرك فضل الجماعة وأدرك الجماعة، ومن أدرك أقل منها فلم يدرك الجماعة، فلا بد من ركعة تدركها على الأقل لتدرك فضل الجماعة وأجرها.
ثم يقول ابن تيمية في المجلد الثالث والعشرين من الفتاوى: واعلم أنه ليس هذا مجال النيات؛ فإن من أتى من بيته متطهراً، وأتى والناس قد صلوا وخرجوا من المساجد وهو يريد صلاة الجماعة كتب الله له أجر الجماعة، وهذا صح فيه حديث، فهي على النية، والله يعلم حرص العبد على الخير.
والخلاف في هذه المسألة يفيد أموراً:
في مسألة -مثلاً- من صلَّى الجمعة فأدرك مع الإمام أقل من ركعة، فعلى قول الأحناف يعيد ركعتين وهي صلاة جمعة، وعلى قول ابن تيمية فإنه يعيدها ظهراً؛ لأنه صلَّى أقل من ركعة.
والراجح أن الصلاة لا تدرك إلا بركعة، ودليلهم حديث أبي بكرة في الصحيح: {زادك الله حرصاً ولا تعد} ودليلهم حديث البيهقي عن ابن مسعود -وهو ضعيف حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أدرك الإمام ساجداً فليسجد معه ولا يحتسبها، ومن أدركه راكعاً فليركع معه وليحتسبها} وقد ذكر هذا البليهي في السلسبيل، لكن هذا مع ذاك يؤيد أنها ركعة، ثم ابن تيمية ينظَّر تنظيراً علمياً؛ لأن الركعة هي آخر ما قامت عليه الأحكام، ولأن من ترك الفاتحة وأدرك الركوع نابت عن الركعة، فعلى هذا تدرك أقلها بركعة وهذا هو الصحيح إن شاء الله.
والسنة: إذا دخلت المسجد ورأيت الإمام على حال أن تدخل معه في أي حال كان، هذه هي السنة، فإذا دخلت والإمام يقرأ التشهد فادخل معه، وإذا دخلت وهو ساجد فاسجد، أو راكع فاركع، أما الذي اشتهر بين الناس أنه إذا كان متشهداً فإنه ينتظر حتى يقوم، أو كان ساجداً ينتظر حتى يقوم ويجلس، فهذا خطأ بل اسجد معه وادخل على أي هيئة كان، لكن لا تحتسبها ركعة إلا إذا أدركته في الركوع.