الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.
عنوان هذه المحاضرة: مكانة المسجد في الإسلام، وهي تحمل الرقم التاسع بعد الثلاثمائة، وأسأل الله أن ينفع بها، وقبل أن أبدأ أزف الشكر لأهله ولذويه وعلى رأسهم رئيس هذا النادي: الأستاذ النبيل الأديب محمد بن عبد الله الحميد أثابه الله وحفظه، وحفظ أعضاء النادي والحضور وكل مسلم، ومعذرة إن ندَّ بيان أو تلعثم لفظ:
سيدي علل الفؤاد العليلا أحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازماً على قتل روحي فترفق بها قليلاً قليلاً
قبل أن أبدأ في عناصر الدرس عندي وثيقة عن المسجد، أقرأها قراءة ثم أبدأ أتحدث معكم عن أسرار المسجد في الإسلام.
لنا نحن المسلمين مع المسجد أسرار وأخبار، لنا معه تضحيات وأمنيات، سلوا المسجد من الذين زينوا جنباته بالتسبيحات، وأضاءوا جوفه بالعبادات، وسجدوا على جنباته خمس مرات؟
سيقول: المسلمون.
سلوه من الذي فجر من جنابه الكلمة الحية، والموعظة الحسنة، والخطبة المؤججة؟ من الذي صاغ من على منبره منهج الأجيال، وأذكى من محاربه الإيمان في قلوب الرجال، وغرس من روضته دوحة الإفضال؟
سيقول: المسلمون.
سلوه من الذي أباد من على منارته الإلحاد، ونشر من على قبته العدل بين العباد، ونادى العقل للحياة والطموح والجهاد؟
سيقول: المسلمون.
عاش رسولنا صلى الله عليه وسلم في المسجد خطيباً، يبعث من الصحراء أمة، ومن الأمة جيلاً، ومن الجيل قادة، ومن القادة شهداء لله في الأرض، يقول القاضي الزبيري شاعر اليمن:
ما بنى جملة من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمة من عفاء
عاش صلى الله عليه وسلم يصنع في المسجد من العبارات درراً، ومن الكلمات ثمرة، يقول أحمد شوقي:
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
وعاش صلى الله عليه وسلم في المسجد معلماً يفتح البصائر على العبر، ويحرر العقول من الأوضار، ويسكن القلوب بمعين الحكمة والهداية.
وعاش صلى الله عليه وسلم في المسجد قائداً، يرسل كتائب الإيمان، وينظم جيوش الحق، لتنسف ركام الباطل، ويربي الفاتحين لينقذوا الدنيا من أتباع الشيطان، وإنها لتعجبني أبيات للبردوني ولو أنه لا يعجبني، وأبرأ إلى الله منه ومن منهجه، وأسأل الله أن يعامله بعدله، ولكنه تفوق أيما تفوق في قصيدته، وهو يروي عطرة الرسول عليه الصلاة والسلام في المسجد، وانطلاقه من المسجد، وسيرته صلى الله عليه وسلم في المسجد، يقول في أبياته:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار
إنه رسول الهدى، ثم يقول له البردوني بعاطفة القومية التي لا تكفي لتكون صلة بينه وبين صاحب المسجد، إذ لا بد لنا مع صاحب المسجد من عقيدة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] والقومية وحدها ليست صلة، فيقول البردوني:
نحن اليمانين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار
على كلٍ أبدأ في العناصر، وقبل أن أبدأ أحب أن أبين أن هناك فصولاً تحدث فيها القرآن عن المسجد، وعن مهمته، ورسولنا صلى الله عليه وسلم روى بسيرته وحكمته وموعظته مهمة المسجد في الناس، ثم أتعرض لكلام أهل العلم والأدباء.