الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً؛ والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجًا منيراً بلَّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، رفع الله به رءوسنا وكانت مخفوضة، وشرح به صدورنا وكانت ضيقة، وأسمع به آذاننا وكانت صمَّاء، وبصَّر به عيوننا وكانت عمياء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الفضلاء أيها الجيل النجيب أيها الأحباب الأبرار.
إن كان لي شكر، فإني أتوجه بالشكر إلى الله تبارك وتعالى على توفيقه، وعلى أن جمعنا بهذه الوجوه الساجدة لله، الباسمة المتوضئة المستنيرة بنورِ الإيمان؛ ثم أشكر القائمين على هذا الصرح العلمي الفذ مديراً وأساتذةً وطلاباً.
أيها الإخوة: إن حديثنا هذا اليوم ليس بجديد عليكم وليس بغريب؛ ولكنه ذكرى، فإننا نتحدث مع جيلٍ آمن بالله ورضي به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
أيها الإخوة الفضلاء: إنني أتحدث مع مؤمنين رضوا بهذا الإسلام جلباباً وثوباً وستراً وهدايةً وتشريعاً ومنهجاً.
إنني أتحدث مع أُناسٍ أتوا من أصلابٍ مؤمنة، ووقعوا في أرضٍ مؤمنة، واستظلوا بسماءٍ مؤمنة.
إنني أتحدث مع طلبةٍ ليسوا بغريبين عن الإسلام ولا غريبين عن الإيمان؛ إنهم في بقعةٍ مؤمنة، وفي دارٍ مؤمنة أستاذتهم مؤمنون، وآباؤهم مؤمنون، وأمهاتهم مؤمنات.
حديثي إليكم -أيها الإخوة الفضلاء- عن دور الإيمان في عبودية الجوارح.
فما معنى الإيمان؟ وما معنى أن نكون مؤمنين؟
إن أمةً بلا إيمان قطيعٌ من البهائم، ومدرسة بلا إيمان مدرسة متهدمة خاوية، وقلب بلا إيمان كتلة من لحم ميتة، وأستاذٌ بلا إيمان جثمان هامد لا حراك فيه، وكتاب بلا إيمان أوراق مصففة، وخطبة بلا إيمان كلام ملفق.
فما هو الإيمان؟
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فقبل أن يأتينا الإيمان يا معشر الأمة العربية -لا نقولها قومية ولكن الأصالة العربية في الإسلام- قبل أن يأتينا الإيمان كنا رعاة إبل وشاةٍ لا نفهم، ولا نفقه، فلا حضارة ولا تاريخ، ولا ثقافة، فلما بعث الله فينا هذا الرسول عليه الصلاة والسلام ابتُعثنا من جديد، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
ولما حُصِرَ مفهوم الإيمان في مسائل ضيقة أصبح الجيل كما ترون إلا من رحم الله.
قالوا: الإيمان معناه أن تصلي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وأن تغتسل من الجنابة، وأن تتوضأ، والإيمان أن تضحي يوم الأضحى وأن تحج وأن تعتمر، ثم تُرك السلوك، وتركت الأدبيات لشخصيةِ المسلم، وتُرِكَ البيت، وتُرِكَ السمع والبصر لا دخل للإيمان فيه؛ وإلا فما تأثير الإيمان إذا كان طقوساً تعبدية فحسب!
فما وُجِدَت الأغنية الماجنة في المجتمع المسلم، وطُرِدَ بعده القرآن من البيت، إلا يوم خرج الإيمان من القلوب.
وما دخلت المجلة الخليعة في البيوت، إلا يوم استُخْفِي الإيمان من القلوب، وما دُمتَ مع رفقة السوء وتتعاطى السجائر في الجلسات، وقضيت الليالي الحمراء في السهرات، وكثرت الذهبات والجيئات فيما يغضب رب الأرض والسماوات؛ إلا يوم قضي الإيمان.
وما أسبلت الثياب -وما أتيت اليوم لأتحدث عن إسبال الثوب؛ جزئية من جزئيات- إلا لما أخفي الإيمان من القلوب، وما خولفت سنته صلى الله عليه وسلم إلا يوم ضعف الإيمان في القلب.
وإذا أتينا إلى مشكلاتنا لنعالجها فما تُحل، وهي أكبر من أن تُحل، وحلها الوحيد هو الإيمان.