ومن حقوق الأبناء على الآباء: الرضاعة الحقة التي يريدها الإسلام.
وكثيراً ما يخفق المجتمع الذي نعيش فيه في الرضاعة، إما أن يسند الطفل إلى غير أمه من أول وهلة، فلا يكون له علاقة بأمة، ولو كانت قادرة على الرضاعة، وهذا ينشئ الطفل مبتور الصلة والحنان مع أمه؛ فلا تجده مثل ذلك الابن الذي نشأ على ثدي أمه، يشعر أنها أم وأنها قريبة من قلبه وأنها ذات صلة.
وتجد بعض البيوت يفرط في هذا الجانب، فيستقدم كثيراً من المرضعات، أو كثيراً من الوسائل للرضاعة، ويترك الأم ولو كانت قادرة، وهذا خطأ ظهرت آثاره في التربية على الأطفال، عندما نشأ فيهم العقوق أو الجفاء أو القطيعة مع الأمهات، ينظر إليها وكأنها أمامه حجر، لا يجد صلة، ولا يجد حناناً، ولا عطفاً؛ لأن لبنها ما سرى في شرايينه وعروقه، وهذه حكمة الله عز وجل، والله عز وجل ذكر الرضاعة في القرآن فقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233].
وكلما تم الرضاع وحسن، كان أحسن وأجود وأمكن، ولا بد من اختيار البيئة التي يرضع فيها الطفل.
ومن حقوق الأبناء على آبائهم: ألا يرضعه كافرة ولا فاجرة ولا حمقاء ولا سيئة التصرف؛ فإن لبنها سوف يكون له أثر في عقله وإرادته وتوجهه، ولذلك رضع رسولنا صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد، حيث الصفاء والنقاء والهواء، فنشأ أفصح فصيح من فصحاء العرب، ونشأ أخطب خطيب من خطباء الدنيا، ونشأ عليه الصلاة والسلام وهو ذو إرادة حية، وإحساس متحرك وبيان فياض.
والبادية لها أثر -أعني: البادية التي كانت في الجيل الأول- أما باديتنا فالذي يظهر عليها اليوم الجهل والتخلف وفساد المزاج، أما البادية التي نشأ فيها صلى الله عليه وسلم فكان لها أعظم الأثر في حياته صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها: {ربما رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام، إذا تهللت أسارير وجهه وأتاه خبر يسره، كأنه البدر ليلة أربعة عشر، فتذكرت قول الشاعر أبي كبير الهذلي:
ومبرأً من كل غبَّر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
}
والسبب: من جودة الرضاعة كان وجهه يبرق، مع ما آتاه الله من الحكمة والقوة، وما آتاه من الجمال، حتى قيل لـ أبي هريرة: أكان وجهه صلى الله عليه وسلم كالسيف؟ قال: لا والله، بل كالشمس.
وقال أنس: [[والذي نفسي بيده، لقد نظرت إلى وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى البدر ليلة أربعة عشر، ولوجه المصطفى صلى الله عليه وسلم أجمل من البدر]] وهذا من جودة إرضاعه عليه الصلاة والسلام وقد حذر أهل العلم من رضاع المرأة الحمقاء؛ لأن الطفل ينشأ أحمقاً.
ذكر ابن كثير في ترجمة القاضي شريح -وكان من أذكياء الدنيا-: أن ثلاث نسوة دخلن عليه -وكان ذكياً ومنشأً، ومن أراد أن يعود إلى القصة، فليعد إليها في البداية والنهاية، وكان قاضي الدنيا- فقال قبل أن يتكلمن: أما هذه المرأة فثيب، وأما هذه المرأة فحامل بولد، وأما هذه المرأة فأرضعتها كلبة.
فقيل له بعد أن انتهى من الحكم: ما دلك على ذلك؟ قال: أما الأولى فحامل بالولد؛ لأن صوتها ضعيف، وأما الثانية فثيب؛ لأنها تنظر في وجوه الرجال، وأما الثالثة فأرضعتها كلبة؛ لأن في يديها رجة ورجفة.
فسئلت النسوة فكان كما قال.
وهذا من ذكائه، وهو يعادل ذكاء القاضي إياس، وربما حمل بعض أهل الأدب هذه القصة على القاضي إياس، الذي يقول فيه أبو تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
.