ثم عاد عليه الصلاة والسلام، وفي آخر يوم -يوم الإثنين- وما أدراك ما يوم الإثنين! يوم قبض فيه رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، وهادي البرية، يوم توفاه الله إليه ليكرمه جزاء ما قدم للأمة، يوم قبضه الله، قال أنس: [[ظننا أن القيامة قامت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم]] أي مصيبة أكبر من مصيبة وفاته على الأمة؟! أي حدث وقع في تاريخ الإنسان يوم توفي خير إنسان وأفضل إنسان عليه الصلاة والسلام؟! ولكن نقول الآن وبعد الآن ويوم نلقى الرحمن: إنا لله وإنا إليه راجعون! {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
قال أنس رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح: {كشف صلى الله عليه وسلم لنا ونحن في الصلاة، فنظرنا إلى وجهه وهو في حجرة عائشة، وكأن وجهه ورقة مصحف، فلما رآنا صفوفاً كدنا نفتتن} قال أهل العلم: نفتتن، أي: استبشاراً وفرحاً، ظنوا أنه قد عاد إلى صحته، وظنوا أنه قد تشافى من مرضه، ولكنه يتبسم
يا لقلبي ويا لشعري ما لهذا التبسم، ومالهذا التعجب! إنه -إن شاء الله- تبسم لأنه رأى الصفوف منتظمة، ورأى الدعوة حية، ورأى الرسالة منتصرة، ورأى لا إله إلا الله مرتفعة، ورأى أبا بكر يصلي بالناس، ورأى دعوة التوحيد قد ضربت بجرانها في الجزيرة، فحق له أن يتبسم.
يتبسم لأنه ترك جيلاً مؤمناً، وكتيبة موحدة، وترك جيشاً يوالي لله ويعادي في الله، ويموت من أجل الله، ثم رد الستار، ولكنه تبسم أخير ومنظر أخير، ما بعده إلا الموت، ثم أتى عليه الصلاة والسلام فمرضته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، جلس عليه الصلاة والسلام ووضع رأسه الشريف في حجرها، ويا لسعادة الزوجة بزوجها! ويا لسعادة الحبيبة بحبيبها! ويا لفرحتها بمؤنسها وبرجلها في آخر عمره وهو يلصق رأسه بحجرها رضي الله عنها وأرضاها! كانت تقول: {توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري} وفي الصحيح قالت: {توفي بين حاقنتي وذاقنتي} فأخذت تتلو عليه القرآن، وتعوذه بالمعوذات؛ لأنه أصبح لا يستطيع أن يقرأ أو يتلو.
اشتد عليه الكرب عليه الصلاة والسلام، وفي تلك الفترة دخل عليه أسامة بن زيد حبه وابن حبه، كان مولى، ولكن الحب والود في الله، فما استطاع عليه الصلاة والسلام أن يكلم أسامة، وقد جهز له جيشاً يرسله إلى البلقان، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه، وما سمعوا له كلاماً كما في السيرة يرفعها ثم يردها، قال أسامة: فعلمت أنه يدعو لي صلى الله عليه وسلم.
ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر، والرسول صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت، ومع عبد الرحمن سواك من أراك يستاك به، وهو صهره ورحيمه، فنظر إلى السواك؛ لأنه طيب، فمه طيب، ونفسه طيب، وكلامه طيب، وحياته طيبة، ومماته طيب، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: {فعلمت أنه يريد السواك، فأخذته فقضمته ثم غسلته ودفعته إليه صلى الله عليه وسلم، فاستاك كأشد ما يستاك في الحياة صلى الله عليه وسلم} وأخذ يدير السواك بقوة، ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
ثم أعاد صلى الله عليه وسلم قضية التوحيد ورسالة التوحيد -يا أهل التوحيد- وهو في سكرات الموت، كان يأخذ خميصة فيبلها بالماء، ويجعلها على وجهه ويقول: {لا إله إلا الله، اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، لا إله إلا الله، اللهم هوِّن عليَّ سكرات الموت} ثم قال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله اليهود والنصارى -مرة ثانية- اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وعند مسلم: {قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري مسجداً، فإني أنهاكم عن ذلك} فهو يوصي بالتوحيد صلى الله عليه وسلم.
ثم من كمال إشفاقه أوصى بالصلاة وهو في سكرات الموت أين الذين يوصون بالقصور والفلل؟
أين الذين يوصون بالأموال والمناصب؟ أين الذين يوزعون التركات؟
ها هو سيد البشر وخير البشر صلى الله عليه وسلم يوصي بالصلاة، ويقول وهو في الرمق الأخير: {الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم، الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم، الله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم} ثم يشير بسبابته صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فترتفع روحه إلى الحي القيوم، إنا لله وإنا إليه راجعون! صلى الله على محمد رسوله، نشهد بالله شهادة ندخرها ليوم العرض على الله، أنه ما مات إلا وقد دلنا على كل خير، وحذرنا من كل شر، وبلغ الرسالة، ونشهد أنه أدى الأمانة.
وانصرع صلى الله عليه وسلم في ذاك المصرع، الذي لا بد أن يصرعه كل واحد منا، فجهز نفسك وقدم لها، وتهيأ لذاك المصرع، فو الله لتصرعَن يوماً ما، ووالله لتأخذن روحك خلسة، فتهيأ لذاك المصرع، أعاننا الله وإياك وكل مسلم عليه.