ومن آداب أهل السنة في النصيحة: أنهم يصبرون على الأذى، ينصح بلين ولكن نتائج النصيحة لا نعرفها؛ لأن المنصوحين ليسوا على طبقة واحدة، بعضهم يفتح قلبه لك، ويفتح بابه، ويعانقك، وبعضهم يردك من عند الباب بلا ضرب وبلا ملاكمة والحمد لله، وبعضهم يكشر في وجهك، ويرفع صوته، وبعضهم يرد عليك بكف حامية، وهذه منازل الناس، ولذلك قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فأتى بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والرسول عليه الصلاة والسلام أوذي، والله الذي لا إله إلا هو لو أوذي كل داعية، ومهما أوذي من الدعاة والعلماء وطلبة العلم والصالحون والصالحات؛ ما بلغوا عشر معشار ما وُجِدَ من الأذى ما وجد عليه الصلاة والسلام في سبيل الدعوة، فلا إله إلا الله كم صبر! ولا إله إلا الله كم صابر! ولا إله إلا الله كم احتسب! حتى بلَّغ اللهُ دعوته مبلغ الليل والنهار.
والفيافي حالمات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
والرمال العفر صارت حللاً عجباً من قلبك الفذ الكبير
أوذي، وشتم، وسُبَ وأخرج من داره، وبيعت أملاكه، حورب، جرح، قتل أصحابه، ضربت بناته، ومع ذلك يردد حاله:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وقد ورد في أحاديث: أن ملك الجبال أتى إليه لما أخرجه أهل مكة بأذى، أخرجوه من مراتع الصبا، من أرض الطفولة، من الأرض التي أحبها، أسفك الدماء؟ أأخذ الأموال؟ أهدد الأبرياء؟ بل أراد أن ينقذهم من النار إلى الجنة، وأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، أخرجوه، وقف ينظر إلى مكة وهو يبكي، وهذا الحديث يحسنه كثير من العلماء، وقف يقول: {والذي نفسي بيده، إنكِ لمن أحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت}.
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
أطفاله؛ زوجاته؛ أصحابه، أخرج وحيداً فريداً، لا زوجة ولا ولد، ولا معين إلا الواحد الأحد، ففكر في الدنيا، إلى أين يذهب؟ فذهب إلى أهل الطائف، فوقف عليهم جائعاً متعباً سهران ظمآن، فدعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلّ.
واسمعوا إلى الرد القبيح الذي يساوي وجوه هؤلاء الكفرة، قال أحدهم: أما وجد الله غيرك في الدنيا حتى يرسلك إلينا؟ فتضاحكوا، وقال الثاني: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الثالث: إن كنت نبياً فأنت أجل من أن أكلمك، وإن كنت كذاباً فلن أكلمك، فليتهم تركوه، جائع ليس في بطنه شيء، ضمئان سهران، قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] فقام ثلاثاً وعشرين سنة، ما نام وما ارتاح، في سهاد، وجهاد، وجلاد، وعبادة، وزهادة؛ حتى رفع الله به راية الحق واجتمعنا على ذكره.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
عاد فأصبح بين حربين بين الطائف ومكة، إلى أين يذهب، قال ملك الجبال بعد أن جرحوه بالحجارة: يا محمد! أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين؟ جبلين في مكة على أهل مكة، قال: {لا.
إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله، ثم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} رفع الله منزلتك، وآتاك الوسيلة، وجزاك الله عما قدمت لنا من الهدى ومن نصيحة، والله الذي لا إله إلا هو ما تركت خيراً إلا دللتنا عليه، ولا تركت شراً إلا حذرتنا منه، أعطيتنا وهديتنا وواسيتنا، فرفع الله منزلتك وأعطاك الشفاعة يوم العرض الأكبر.
هذا من هديه عليه الصلاة والسلام في النصيحة، هديه الصبر على الأذى، والداعية يتعرض لإيذاءات، وطالب العلم، والرجل الملتزم، والرجل الصالح يترك الغناء، فيوصف بالتطرف والتزمت، يهتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام بالسنة فيُلمز، يحافظ على الصلوات فيوصف بأوصاف بشعة، وهو على الحق، يا ملتزم! يا مستقيم! يا من تتعرض لحروب من الشائعات والتجريحات! قل لهذا المنتقد:
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
عجيب! أصبح عبد الأغنية يتكلم! أصبح ابن المسرحية يتحدث! أصبح الذي لا يعرف المسجد المتخلع في الحرمات ينتقد الأخيار! والله هذا أمر عجب، وإنه واقع لا محالة، وكأنه من السنن الكونية في الأرض، والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].