نعم.
لقد أصبحنا نقرأ ونسمع كثيراً من يقول: إن مظلة الإسلام كبيرة، ويمكنها أن تحتوي هذه الفرق والطوائف، والحق كما بينت جزاك الله خيراً.
Q الغربة كلمة لها دلالتها ولها إيحاءاتها، بل لعلها أدبياً وشعرياً تعطي ظلالاً بعيداً جداً، وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم غربة المسلم في آخر الزمن، وفي هذا الزمن يشعر المسلم الملتزم أنه يعيش غربة بلا شك، فعندما يلتفت يميناً وشمالاً ويبحث عن مذهب أهل السنة والجماعة والإسلام المتكامل السليم الصحيح يجد أنه يعيش غربة، خاصة عندما يحرص المسلم على اتباع السنة المطهرة فماذا يقول الشيخ عائض بن عبد الله القرني لهؤلاء الغرباء؟
صلى الله عليه وسلم كما تفضلت، فإن الاسم الشرعي لهذه المسألة: الغربة، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم الغربة، فقال لـ ابن عمر في الصحيح: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وقال فيما صح عنه: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} ويسميها بعض المعاصرين: (العزلة الشعورية) والاسم الشرعي أحسن ظلالاً, وأندى لغة, وأقرب للمعاني التي يعيشها الناس.
وهؤلاء الغرباء متفرقون في الأرض -كما قال الإمام النووي - يوجدون في العلماء، والأمراء، والسلاطين، والعامة، وفي الفلاحين، والجنود، وبمجموعهم تتحقق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، فإنها لا بد أن تكون كاملة، ولا تنقطع في أي فترة من الفترات، بل إنها مستمرة كما قال صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله بأمره} وهذه لا بد من ظهورها، سواء وجدت دولة إسلامية قوية أو لم توجد، انتصر المسلمون أو لم ينتصروا، فهذه الطائفة متحققة، لأنها تحمل الملة والدين.
وهؤلاء الغرباء عليهم أمور:
أولاً: أن يحمدوا الله عز وجل على التفرد، وهو كما قال الهروي: لا تخاف من وحشة التفرد، فإنها دليل على العظمة.
فالانفراد دائماً دليل على عظمة الإنسان إذا كان في الحق، كما يقول المتنبي:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ثانياً: أن يعلموا أن قدوتهم في هذه الغربة محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه يوم ألقى بنوره في الأرض، وبدا صلى الله عليه وسلم وسطع سطوع الفجر على الناس، كان هو الغريب الوحيد الذي يقول للناس: قولوا: لا إله إلا الله ثم تبعه الغرباء.
ثالثاً: أن يعلموا أن هذه نعمة من الله واصطفاء واجتباء بجعلهم من هؤلاء الغرباء، ولم يجعلهم من هؤلاء الهمل الذين يعيشون بغير مبادئ، وليس عندهم طموحات لإنقاذ النفس والناس، وإنما همُّ أحدهم فرجه وبطنه, قال تعالى عنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
رابعاً: على الواحد منهم أن يلبس لباس الغرباء، فقد قال عنهم ابن القيم: اسمهم السنة، لا يعرفون إلا بها، وبيوتهم المساجد، وعكازهم لا حول ولا قوة إلا بالله، ونداؤهم الزهد، ومطيتهم التوكل، وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم ويريدون وجهه: {دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها}.
فهؤلاء هم الغرباء الذين يتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم، والواحد منهم يصلح الله به فئاماً من الناس، لأنه صاحب حق، والناس أهل باطل والحقيقة أن الغربة مجزَّأة كما ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين:
فهناك غربة في المعتقد؛ فصاحب العقيدة الحقة غريب بين المتلوثين عقدياً، والمعاقين عقلاً وفطرة، فتجده موحداً صادقاً، وتجد غيره مخلطاً علمانياً، أو حداثياً، أو يسارياً ملحداً، أو نصرانياً، أو يهودياً وهو موحد يعرف الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويعتقد عقيدة الإسلام.
وهو غريب في صلاته، لحسنها وسوء صلاة الناس، وغريب في تعامله؛ لأنه صادق، وغيره خونة وغشاشون ومرابون وغريب في علمه، وغريب في ثيابه وهندامه، وفي كلامه إلى غير ذلك من أنواع الغربة التي ذكرها.
وبالمناسبة أطلب من الدكتور عبد الرحمن قصيدة في الغربة، ولعله سبق أن قال شيئاً، ولكن هذا الموضوع حي ونافذ، وله أنداء أدبية، وله وقع في النفوس، وجلال في القلوب، فأحب أن تكون هناك قصيدة تصاغ بهذا المبدأ وتهدى للغرباء.