وبوب البخاري باب البكاء على الميت، وأتى بحديث جابر لكن رحم الله البخاري اختصره لأنه على شرطه، ولم يأتِ بالقصة لأن القصة ليست على شرطه، والقصة أن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وهذا يسمى مكلم الله بلا ترجمان، كلم الله مباشرة بلا ترجمان، وأحدنا إذا كلم سلطاناً تمدَّح به سنة بالمكالمة، فكيف بهذا العبد الفقير أنه كلم رب العالمين، مباشرة بلا ترجمان.
{أتت معركة أحد فاغتسل وودع أطفاله، وودع زوجته، ثم لما حضر المعركة وكسر غمده على ركبته -وهذا يسمى عند العرب: خطر، والمتأخرون يسمونه (خطر ممنوع الاقتراب) - فلما كسر غمده على ركبته، قال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، فقتل في سبيل الله، بعد أن ضُرِب بأكثر من ثمانين ضربة، لكن في سبيل الله.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألَمُ
قال جابر: فأتيت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأنا أسأل عن أبي، ويبكي جابر، قال: كان الناس ينهونني، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، قلت: أين أبي يا رسول الله؟ قال: هو ذا، قال: فأخذت أبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: ابْكِ أو لا تَبْكِ، والذي نفسي بيده يا جابر! ما زالت الملائكة تظلل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده يا جابر لقد كلَّم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، وقال: تمن، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم لا يرجعون، فثمن، قال: أتمنى أن ترضى عني، قال: فإني قد رضيت عنك وأحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً}.
نسأل الله رضوان الله.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
يذكر أبو نعيم وأمثاله، في كتب السير أن عابداً من بني إسرائيل شابت لحيته في الثمانين من عمره، وبعض الناس يصل عمره إلى ثمانين سنة وهو مخرف، مطبل، مغنٍ، لا يعرف مِن ذِكْر الله ولا من القرآن ولا من الولاية ولا من الاتجاه إلى الله شيئاً.
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخ قد تفتى
وأقبح القبيح أن ترى شيخاً وهو يرتكب العظائم والقبائح، وهو دائماً مع اللاهين المعرضين عن منهج الله، أقبح الناس من شابت لحيته وهو مازال مصراً على المعصية، يقول ابن عباس في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] النذير: الشيب.
يقول الإمام أحمد - قبل أن آتي بقصة الإسرائيلي- قيل له: ما وصفك للشيب؟ يعني: كيف تصف الشيب والشباب؟ قال الإمام أحمد: ما مثلت الشباب إلا بشيء كان في يدي ثم سقط.
بكيتُ على الشباب بدمع عيني فلم يغنِ البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
هذا العابد الإسرائيلي وقف أمام المرآة وكان عمره ثمانين سنة، أصلح في الأربعين الأولى، وخرب في الأربعين الثانية، بعضهم يصلح، ثم يدركه الخذلان، فيخرب عمره ويشطب حياته، وينتكس على رأسه والعياذ بالله، وقد وجد أن بعض الشباب في المجتمعات، يشكو أباه، يقول: مقصر في الطاعة، الابن عمره عشرون، والأب عمره سبعون، فسبحان من هدى هذا وأضل ذاك! ومن قرب هذا وأشقى ذاك! حكمة بالغة وقدرة نافذة فما تغني النذر، قال الإسرائيلي: يا ربِّ! أطعتك أربعين سنة، ثم عصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني إذا عدت إليك؟ قال: فسمع هاتفاً يقول: أطعتنا فأحببناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإذا عدت إلينا قبلناك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] لكن بشرى للعالم أنا صحونا ورجع شبابنا، وشيوخنا، بشرى للدنيا كل الدنيا، أن شبابنا قد امتلأت بهم المساجد، وقد عافوا الغناء، وعادوا إلى القرآن، وملوا المقاهي والملاهي، وسبحوا بحمد الواحد الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غابتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
عاد أبناء خالد وطارق وسعد إلى الله، والله إنه لا سعادة لنا إلا يوم أن نحكم الكتاب والسنة في حياتنا وفي تعاملنا، وأدبنا، وسلوكنا، هذه حقيقة الحياة، ولم يعرفها إلا الصحابة رضوان الله عليهم، أما غيرهم معرفتهم بحقيقة الحياة أمر نسبي، بقدر إيمانهم وصلاحهم، وقربهم من الله عز وجل.