والحديث: {أن عمر رضي الله عنه رأى حلة سيراء} -قال الخطابي: تضبط على (سُيراء) بضم السين، وقال غيره من أهل العلم: (سِيراء) بالكسر.
وقال الخطابي: هي على وزن عُشراء؛ لأن الناقة إذا أصبحت في الشهر العاشر سمتها العرب عُشراء، قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] وهنا سُيراء لكثرة سيورها {عند باب المسجد} مسجده صلى الله عليه وسلم، وفيه جواز البيع عند أبواب المساجد {فقال: يا رسول الله! لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدم عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة.
ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت!!}.
وهذا هو عطارد بن حاجب التميمي خطيب الوفد الذين وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم لما وفدوا قالوا: يا رسول الله! نريد أن ننافرك ونغالبك.
فأتوا بخطيبهم، قيل: أنه عطارد، وقيل: عمرو بن الأهتم فوقف على المنبر ومدح بني تميم وما تعرض للصحابة ولا للمهاجرين والأنصار والمنافرة عند العرب أن يأتي الخطيب ويتفاخر بمآثرهم في الجاهلية، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؛ تألفاً لقلوبهم واستجذاباً لأرواحهم للإسلام فلما انتهى قال صلى الله عليه وسلم: أين ثابت بن قيس بن شماس، وهو أنصاري؛ فقام رضي الله عنه فقال له: رد عليه.
فقام على المنبر فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُثبَّت فثبت الله كلامه، فألقى موعظة كأن الصواعق تتحدر من على المنبر حتى غلب خطيبهم، فإذا عرق بني تميم يتصبب على جباههم، ثم قام شاعرهم وهو الزبرقان بن بدر في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
نحن الملوك فلا حي يضارعنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
فلما انتهى من قصيدته قال صلى الله عليه وسلم: أين حسان؟ فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: رد عليه، اللهم أيده بروح القدس -يعني بجبريل- أي: ثبت قلبه وأيده؛ لأن الأمر ضيق والوقت عجل، وهو إما أن ينجح في هذا الموقف وإلا فهو الفشل، فقام فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: كيف أنت؟ فقال: يا رسول الله عندي لسان لو وضعته على حجر لفلقه، ولو وضعته على شعر لحلقه؛ ثم مد لسانه فضرب أرنبة أنفه وقليل من الناس من يفعل ذلك.
يقول الذهبي: قال رجل لبعض زملائه: كل من في السوق لا يعقلون شيئاً وليس فيهم عاقل.
قالوا: ما صدقت.
قال: اذهبوا معي، فذهبوا معه فأخذ يهلل ويكبر حتى اجتمع الناس عليه فقال: يا أيها الناس! ورد في الأثر أنه من مس لسانه أرنبة أنفه أدخله الله الجنة!! فأخذ الناس في السوق كل يمد لسانه حتى مد جميع من في السوق فـ حسان رضي الله عنه قالها بجدارة لطول لسانه في الحق، فقام على منبره صلى الله عليه وسلم، وأخذ صلى الله عليه وسلم يقرب له المنبر بيديه الشريفتين، فأخذ ينطلق وهو يقول:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
إلى آخر تلك القصيدة الرنانة التي ما سمع الناس بمثلها، فلما انتهى هزموا مرة ثانية، وقالوا: غلب شاعرك شاعرنا وخطيبك خطيبنا؛ فأسلموا.
وكان فيهم قيس بن عاصم المنقري حليم العرب، فقال صلى الله عليه وسلم لما دخل الوفد: من هذا؟ -وكان عمره ستين أو سبعين سنة وعليه لفافة على رأسه- قالوا: هذا قيس بن عاصم.
فقال: ما ذكر لي أحد إلا كان أقل مما ذكرلي إلا هذا فكان أعظم مما ذكر لي، أنت سيد أهل الوبر ولذلك يقول الأول:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك نعمةً إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس موته موت واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
{فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! كسوتنيها، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخاً له بـ مكة مشركاً}.