يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: {كان هناك رجل من بني إسرائيل فقال لأبنائه لما حضرته الوفاة: إذا أنا مِتُّ فاجمعوا حطباً ثم أشعلوا النار وأحرقوني، فإذا أصبحتُ فحماً فاسحقوني وذرُّوني، لعل الريح تذهب بي فلا يجدني الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يستطيع أن يجمعني! - أليس الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول للشيء: كن فيكون؟! - فلما توفي هذا الرجل جمع له أبناؤه حطباً وأشعلوا ناراً وحرَّقوه، فلما أصبح فحماً سُحِق وذُرِّي في يوم فيه ريح، فذهبت به الريح يمنة ويسرة وفي كل مكان، فجمعه الذي بدأه أول مرة، فلما أصبح أمامه رجلاً قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: يا رب! خشيتك من كثرة ذنوبي - وهو موحد مؤمن في الأصل -، فقال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يا ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرتُ له وأدخلته الجنة} قال ابن تيمية: لما شك في القدرة غفر الله له بسبب أنه خاف من لقائه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول أحد شعراء الإسلام:
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أي: أنك إذا خلوت لوحدك ليس معك إلا الله، ولا يراك إلا الله، ولا يشاهد حركاتك وسكناتك إلا الله، وتظن أنك خلوت وانفردت وأنك أصبحت في مكان وحدك، فوالله إنك لم تنفرد، فمعك رقيب وعتيد، ومعك الذي لا ينام ولا يغفل، ومعك الذي لا ينسى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحِ من نظر الله واعلم أنه: {يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219].
ورد في بعض الآثار أن رجلاً اختفى في غابة وهَمَّ بمعصية فقال: لا يراني أحد، أنا في غابة وحدي وقد تسنت لي المعصية، فسمع هاتفاً يهتف ويقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يقول ابن مسعود: [[الله الله في السرائر، الله الله إذا خلوت]].
وهذا الإمام أحمد -الإمام الزاهد العالم الكبير- قال بعض تلاميذه: والله إنا لنسمعه يبكي من وراء البيت وهو يقول:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل علي رقيب
وصاحب هذا البيت هو أبو نواس الذي تعرفونه وتسمعون به، وهو الذي توفي على فسق ومعصية، وقد رئي في المنام - كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية - فقيل له: " ما فعل الله بك يا أبا نواس؟ قال: غَفَر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: وصفتُ الزهرة - واسم القصيدة: (القصيدة النرجسية) في ديوانه - ورَدَدْتُ أمرَها إلى الله، وقلت: إنه هو الذي أبدعها وزينها وحلاها وجملها.
فغفر الله له بذلك السبب، ولذلك بعض الأسباب السهلة في الحياة تستطيع أن تدخل بها الجنة.
وهذا رجل من بني إسرائيل رأى غصناً من شجرة ذا شوك في طريق الناس، فصرفه عنهم فأدخله الله بذلك الجنة.
ويقول ابن كثير في البداية والنهاية: رؤي جرير بن عطية الشاعر المشهور في المنام بعد أن توفي، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غَفَر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: أذَّنْتُ وحدي في البادية حيث لا يراني إلا الله.
أذن في البادية، هذا الأذان الذي فتحنا به الدنيا، والذي أرسلناه نغماً في آذان البشرية، والذي تهاوت به أصنام الوثنية، وقد أصبح شبابنا الآن يخجلون إذا ذهبوا في رحلة أو في سفر من الأسفار أن يؤذن أحدهم، ويقول: لو أذنتُ لأصبحتُ مطوعاً، وأنا لست بمطوع، أي: أنه بمفهوم مقالته عاصٍ.
يقول محمد إقبال شاعر باكستان:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنسَ أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
شباب الصحابة كادوا يقتتلون على الأذان في معركة القادسية، لأن مؤذنهم عبد الله بن أم مكتوم، عبدٌ أعمى قُتل في المعركة، وقد عذر الله الأعمى أن يحضر لكنه قال: لا بد أن أحضر المعركة، فلما حضر المعركة قُتل في سبيل الله، فكاد شباب الصحابة أن يقتتلوا على الأذان، لكننا الآن أصبحنا نخجل أن نتقدم ونؤم الناس ونصلي بهم ونخطب على المنابر، وأن نؤذن بالناس ونقول: نحن لسنا مطاوعة، نحن شباب متطور أو متهور، فألغينا هذه الوظائف التي رفعت رءوسنا بين الأمم.
والشاهد - بارك الله فيكم - هو: أن المعصية دمار لمستقبل الإنسان، وأنها غضب وعقاب من الله.