المؤهل الخامس من مؤهلاته في عالم الدعوة: صدق اللجوء وقوة التوكل على الله.
فقد كان ابن تيمية يجلس بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع النهار -كما يقول ابن القيم في الوابل الصيب - فيكرر الفاتحة حتى يهتز في بعض الأوقات من كثرة ما يجد من يقينٍ وسكينةٍ واطمئنان حتى إنه كان يقول لـ ابن القيم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
فكان يكرر الفاتحة حتى يرتفع النهار، ويقول: إنه لتصعب وتستغلق عليَّ المسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله عليَّ.
لكننا لم نعش هذه المعاني كما ينبغي يأتي الواحد منا في صالة الامتحان وهو خائف، ويركز على مذاكرته فقط، ويلمح هل ماسة زميله متقدمة حتى يلقط كلمتين بالرادار مع السرعة والعجلة، أو يرسل برقية للجانب الأيسر يأخذ منه بعض المعلومات للتصحيح!! ابن تيمية لا يرى هذا، يرى أن المدد كل المدد والسبب كل السبب واللجأ كل اللجأ إلى الله، فيقول: كلما استغلقت عليّ المسألة, استغفرت الله ما يقارب الألف أو أكثر أو أقل فيفتحها الله علي.
وكتاب سيبويه كتاب معقد في النحو، يقولون: نسجه كما ينسج الإنسان الحرير من الهواء, وهو أول كتاب وضع في النحو أتى ابن تيمية يبحث عن شيخ يقرأ عليه هذا الكتاب فما وجد, فأخذ القلم والكراسة ثم بدأ يقرؤه من أوله إلى آخره، وأخرج ثمانين خطأ على سيبويه.
قال أبو حيان صاحب البحر المحيط: إن كتاب سيبويه كتاب عجيب لا يؤلف مثله فقال ابن تيمية:
نعم! كتاب عجيب لكنه يؤلف مثله، وفي كتاب سيبويه ثمانون خطأ لا تعرفها أنت ولا سيبويه.
وأتى إلى علم الكلام الذي هو مثل الحديد, فبحث عن شيخ ليقرأ عليه فما وجد، فاستعان باللهَ عز وجل وأخذ كراسة وقلماً وبدأ يقرأ علم المنطق على نفسه، وفي الأخير استظهر علم المنطق، وألف كتابه: الرد على المنطقيين، وخطَّأ فيه ابن رشد , والغزالي , وابن سيناء , والرازي , وخطأ أشياخهم إلى أفلاطون جدهم العاشر، يقول: أخطئوا في هذه المسألة في علم المنطق.
وفي الحديث يقولون: حديث لا يحفظه ابن تيمية ليس بحديث حتى أنه في بعض الأوقات يكتب في المسجد وليس عنده مرجع؛ أما نحن الآن فإذا قلنا لأحدنا: ابحث في المضمضة جمع خمسة عشر كتاباً وبحث وفي الأخير يقول: وهذا البحث يحتاج رسالة دكتوراه وما أستطيع أن أحيط به, وعندي مشاغل واهتمامات، وقد بحثت جهدي، وسهرت ليلي، وأفنيت نهاري، وفعلت وصنعت ثم يأتي البحث خطأ.
أما ابن تيمية فكان يأخذ الكراسة ويبحث من نفسه، فيأتي بالحديث بسنده، ومن قرأ في الفتاوى في باب القصر في السفر وصلاة الجمعة والعيدين، فإنه يجد أنه قد جمع الأحاديث من كتب السنة وهو في السجن، ثم وقف مع كل عالم وأوقف كلاً عند حده، وتكلم مع كل عالم فإذا انتهى منه أخذ العالم الثاني وتكلم معه وناقشه وهكذا حتى انتهى وحقق المسألة.
وهذا دليل صدق اللجوء إلى الله، ولذلك أورد عنه ابن القيم في مدارج السالكين: أنه كان يقول بين أذان الفجر والإقامة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أربعين مرة.
وذكر عنه الذهبي أن عينيه كأنهما لسانان ناطقان يكاد أن يكلمك باسمك قبل أن تتكلم عنه، وهذا من كثرة الذكر والذكاء.
ولذلك يقول المزي صاحب تحفة الأشراف: ما أظن أنه وجد كـ ابن تيمية من خمسمائة سنة نقلها صاحب طبقات الحنابلة ابن رجب الحنبلي في ترجمة ابن تيمية وكانت فيما يقارب ثلاثين صفحة.
وقال الذهبي عنه في معجم الشيوخ: لو حلفت بين الركن والمقام أني ما رأيت كـ ابن تيمية لصدقت، ولو حلفت بين الركن والمقام أنه ما رأى مثل نفسه لصدقت.
ويقول ابن دقيق العيد كما ينقل عنه ابن رجب في طبقات الحنابلة أيضاً: والله ما أظن أن الله يخلق مثلك.
وابن دقيق العيد هو مجدد الشافعية في القرن السادس، وهو رجل موهوب، يأتي بالمعاني الدقيقة، حتى إنك تبقى في المعنى الواحد ساعتين وأنت لم تفهم سطراً واحداً.
أما كثرة اللجوء والذكر فحدِّث ولا حرج، يقولون: ما كان لسانه يفتر من ذكر الله عزوجل دائماً وأبداً؛ حتى قال له بعض تلاميذه: نراك ما يفتر لسانك من ذكر الله.
قال: قلبي كالسمكة إذا خرجت من الماء ماتت، فإذا تركته من الذكر مات.
ويقول عنه ابن القيم: رأيته في السجن وهو ساجد يبكي ويقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يرددها ليلاً طويلاً.
وأما صلاته؛ فكان يصلي بعض الأحايين بالناس في مسجد بني أمية في دمشق، وكان إذا قال: الله أكبر؛ رفع صوته حتى يسمعه من في الطرقات، فتكاد تنخلع القلوب إذا كبر ويروي ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين عن تقي الدين بن شقير: أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية صلى صلاة العصر في مسجد بني أمية، ثم خرج إلى الصحراء وحده، قال تقي الدين بن شقير وكان من تلاميذه: فخرجت وراءه حيث أراه ولا يراني، فلما توسط الصحراء رفع طرفه إلى السماء وقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ثم بكى، ثم قال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وهذا البيت لـ مجنون ليلى، يقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنكِ النفس بالسر خاليا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعل خيالاً منكِ يلقى خياليا
فأخذه ابن تيمية واستخدمه في جانب المحبة الواجبة التي لا ينبغي أن تكون إلا لله، لا محبة النساء، ولا الأوثان، ولا الصلبان، ولكن جعله في حق الحي القيوم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذا موقفه من اللجأ وقوة التوكل؛ ولذلك يقول ابن رجب: إن من الأسباب التي منعته وحمته من كيد الأعداء: كثرة الذكر والأوراد التي ما كان يُخلُّ بها كان له بعد كل صلاة ذكر يذكر الله به؛ فحماه الله تعالى من الحسدة والحقدة، ومن الأعداء والخصوم، فما استطاعوا أن يكيدوا له أبداً، وكلما كادوه رفع الله منزلته.