وأول ما يحفظ القرآن الكريم.
وعجباً لمن يبدأ بالمتون ولا يحفظ القرآن، تجده في الرحبية، وفي ألفية العراقي، وهو لا يحفظ القرآن، عمامة بلا ثوب لا تصلح، القرآن ثوبك وسترك، وحياتك وحليتك فابدأ بالقرآن، وإذا حفظت القرآن فبيض الله وجهك ويكفيك من متن، إنه الكتاب الذي استهلك حقائق الدنيا، وكنوز المعمورة، ووقائع التاريخ.
وإذا حفظت القرآن فكل شيء يجزئك مع القرآن، لكن الذي لا يحفظ القرآن، فلا يجزئه شيء عن القرآن، وهذا أمر لا بد أن يفهم، فإذا فاتك سن الصغر، فاحفظ ما تيسر من القرآن، وحفظ المفصل لا بد منه لطالب العلم، وهو من (ق إلى الناس) وهي الآيات التي تصلي بها في الجمع والجماعات والأعياد والمناسبات، وتأخذ منها إشراقك ونورك، وإبداعك وبلاغتك ودعوتك، وهي التي تربي بها نفسك ومجتمعك، فهذا المفصل الأربعة الأجزاء لا بد أن تكون في صدرك، إن فيه جمالاً يخلب العقول، ويبهر الألباب، ألا تريد أن تعيش يوماً من الأيام مع ق، والنجم إذا هوى؟ مع الرحمن والطور؟ ما أجملها خاصة في صلاة الفجر! إنها تسري إلى القلوب المؤمنة، وتؤثر في الأرواح تأثيراً بديعاً.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في سورة النجم في الظلال: كنت مع زملائي أسمر في القاهرة، قال: فمرة من المرات بعد صلاة العشاء ارتفع صوت الراديو، وإذا بصوت مقرئ من المقرئين ينبعث من عند جيراننا فأنصتنا نسمع، فإذا المقرئ يقرأ بصوت حسن: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] فأنصتنا قال: فأما أنا فسافر قلبي في رحلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن السورة تتكلم عن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: وتركت زملائي وهم جلوس -أو كلاماً يشبه هذا- قال: وحاولت أن أتملك نفسي؛ فأما الدموع فنزلت، وفي الأخير رفع المقرئ صوته حين بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:39 - 41] يقول: والله الذي لا إله إلا هو لقد أصبح جسمي يهتز هزاً عضلياً، ونسيت نفسي.
فهذا القرآن لا بد أن يعتنى به خاصة بعد الفجر، فيفتتح يومك بقراءة القرآن، فجرك.
يقول الندوي في ترجمة محمد إقبال في روائع إقبال: ذهب إقبال إلى ملك أفغانستان قبل ما يقارب خمسين سنة، فقال محمد إقبال للملك الأفغاني: أريد أن أكلمك في وصية، قال: ماهي وصيتك؟ قال: هذا القرآن، أسألك أن يكون سميرك هذا القرآن، قال: فبكى محمد إقبال وبكى الملك الأفغاني، ثم قال الملك الأفغاني: يا محمد إقبال! والله الذي لا إله إلا هو لقد مرت عليّ سنوات ما يسمر معي إلا كتاب الله.
قال ابن كثير في ترجمة المتقي لله الخليفة العباسي كان إذا صلى العشاء -وكان خليفة على المسلمين، وعلى البلاد الإسلامية قاطبة- أخذ المصحف وقال للأمراء والوزراء: أستودعكم الله، اذهبوا فأنا سميري هذا المصحف، وقد كان الخلفاء جميعاً يسمرون مع الأمراء والوزراء والشعراء والأدباء، وأهل المجون، وأما هو فيأخذ المصحف بعد صلاة العشاء ويقول: هذا سميري وكفى بالقرآن سميراً.
قال الشاطبي في الموافقات: إن من يريد أن ينصح نفسه فليكن أنيسه وسميره القرآن، وفيه والله من العلوم التي إذا خلصنا قلوبنا من الذنوب والشوائب فتح الله علينا فتوحاً عظيمة.
فإذا فاتك الحفظ، فكرر المختصرات، خذ لك مختصرات في الفنون، مثل: بلوغ المرام في أحاديث الأحكام، أو رياض الصالحين وهو في الواقع كتاب الخطيب والمتكلم والداعية، وزاد المستقنع في الفقه، والبيقونية في مصطلح الحديث، والرحبية في الفرائض، فهذه تقرب لك المعاني؛ فإن لم تستطع حفظ هذه المتون فكررها كثيراً، واقرأ الكتاب عشرين مرة، ليكون في متناول يدك، إذا أردت أن تبحث عن قضية أو مسألة أو حديث.