والعلماء لهم مواقف في ذلك؛ لأنهم كانوا يجعلون عرش الله بارزاً أمامهم إذا سئلوا في مسائل محرجة.
الزهري العلامة المحدث، دخل مع كثير من العلماء على هشام بن عبد الملك آخر أولاد عبد الملك بن مروان، وكان خليفة ولكنه ناصبي يبغض علياً، والناصبي هو: الذي ينصب العداء لأهل البيت.
إن كان رفضاً حبُّ آلِ محمدٍ فليشهدِ الثقلان أني رافضي
حبهم قربة من الله عزَّ وجلَّ: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] لكنَّ هشاماً كان ينصب العداء لهم، وهشام أوحى إليه الشيطان أن المقصود بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] أنه علي بن أبي طالب، والذي تولى كِبْرَه هو عبد الله بن أبي بن سلول كما قال أهل العلم.
فقال هشام للعلماء: [[يا سليمان بن يسار! من الذي تولى كِبْرَه؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبتَ، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول - يقول: ما دام أنتَ خليفة فأنت أعلم، وهو في الحقيقة خليفة لا يعلم - فقال: يا فلان! من الذي تولى كِبْرَه؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبتَ، الذي تولى كِبْرَه علي، قال: أمير المؤمنين أعلم.
قال: يا زهري، قال: نعم.
قال: من الذي تولى كِبْرَه؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبتَ، فقام وسط الناس الزهري -وكان الزهري جالساً- قال: كذبتَ أنتَ وأبوكَ وجدك، الذي تولى كِبْرَه عبد الله بن أبي بن سلول، حدثني بذلك عروة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعلقمة بن وقاص وعائشة، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذبَ حلال ما كذبتُ، فانتفض هشام وقال: لعلنا هيجنا الشيخ، لعلنا هيجنا الشيخ]].
قول الحق صعب وثقيل، لكنه في مواطن ينبغي أن يقال، لكن بقالب من نصح أولاً كما قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ولا يعني ذلك أن الإنسان يتبجح بقول الحق، أو يجرح المشاعر، أو يظلم الناس، فإن النفوس لا تقبل، والنفوس لا بد أن تعطيها كرامتها ومنزلتها، ثم تقول الحق في قالب من النصح حتى يصل إلى القلب.
هارون الرشيد خليفة المسلمين، دخل عليه رجل فقال: " يا أمير المؤمنين! اسْمَع كلاماً شديداً وتَحَمَّلْني، قال: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع، قال: ولِِمَ؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] " لأن هذا هو المطلوب في المسلم، أن يقدم كلمة النصح في قالب من الخير.
وفي موقف آخر، واستشهادٍ ثانٍ: الأوزاعي:
عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور، كان يسمى السفاح، دخل دمشق واستباحها ساعة، فقتل ستة وثلاثين ألفاً، وأدخل بغاله وجماله في المسجد الأموي -الجامع الكبير- وربط الفرسان الخيول بالسواري، وقال للناس: " أترون أحداً يعترض على ما فعلتُ؟ قالوا: نظن الأوزاعي يعترض.
فاستدعى الأوزاعي، قال الأوزاعي: انتظِروا قليلاً، فدخل فلَبس أكفانه بعد أن اغتسل وتطيب، ولبس ثيابه فوق أكفانه، ودخل على عبد الله بن علي، قال الأوزاعي: والله الذي لا إله إلا هو، لَمَّا دخلتُ عليه كأنه ذبابٌ في عيني، وكأني أتصور عرش الله بارزاً للناس، قال: فانعقد في جبينه عرق، وفي يده خيزران والسيوف قد أُشْرِعَت على رأس الأوزاعي، قال: يا أوزاعي! ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟ فحدثه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} فغضب، قال: ورفعتُ العمامة أنتظرُ السيفَ، ورأيتُ بعض وزرائه يرفعون ثيابهم حتى لا يصيبهم دمي، قال: فسألني في الأموال، قلت: حلالها حساب، وحرامها عقاب، قال: اخرج، فخرجت، قال: ارجع، فرجعتُ وأنتظر السيف، قال: خذ هذه البُدرة، يقول: بُدرة من فضة وذهب قال: فأخذتها، ووزعتها على الجنود، ثم رميتُ بالكساء عليه، ثم خرجت، وبقي قدره عند الأمة مرتفعاً؛ لأنه ضحى بدمه في سبيل الله عزَّ وجلَّ.
والإمام أحمد فعل ذلك عند المعتصم، فقد حاول الخليفة المعتصم وهو الرجل الشجاع، والعسكري القوي، صاحب عمورية، حاول أن يجعل الإمام أحمد يقول: القرآن مخلوق، فلم يقل بذلك الإمام أحمد، وجُلد جلدات، يقول الذي جلده: " والله لقد جلدته جلداً، لو جلدته جملاً لمات "، كلما جُلد الإمام أحمد أُغْمِي عليه، فإذا أفاق بعد أن يرشوه بالماء قالوا: " ماذا تقول؟ قال: ائتوني بآية أو حديث، حاولوا به وبدَّلوا وغيَّروا فلم ينفع، فثبت على الحق، حتى جعله الله إمام أهل السنة والجماعة، ونصره الله نصراً مؤزراً ما سمع التاريخ بمثله.