أما تحمل علمائنا للمشاق: فأمر عجيب، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ذكر موسى في القرآن، وأخبر أنه ركب البحر في طلب العلم، وبوَّب البخاري في كتاب العلم: (باب ركوب البحر في طلب العلم) وموسى عليه السلام قد وقف خطيباً في بني إسرائيل، فقالوا له: أتعلمُ أعلمَ منك في الأرض؟ قال: ما أعلمُ أعلمَ مني، فلامه الله وعاتبه على أنه ما ردَّ العلم إلى الله، فقال الله: بل عبدنا بـ مجمع البحرين الخضر أعلمُ منك.
فسافر إليه وطلب منه أن يعلمه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتابع قصة موسى والخضر في القرآن باشتياق، فلما انتهت القصة وقال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] قال عليه الصلاة والسلام: {رحم الله موسى، ودِدْتُ أنه صبر حتى يُقصَّ علينا مِن نبئهما} يقول أهل العلم - والحديث صحيح -: {لما ركب موسى والخضر عليهما السلام في القارب، وأصبحوا في البحر، وإذا بعصفور ينقر من البحر - يشرب من البحر - فقال الخضر: يا موسى! ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أنقص هذا العصفور من هذا البحر}.
ذكر البخاري: سافر جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه شهراً كاملاً في طلب حديث واحد من المدينة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس في مصر، في العريش، فخرج عبد الله بن أنيس ورأى صاحبه فعانقه، فقال له: [[ادخل واجلس، قال: لا.
إنما خرجت لوجه الله، ولا أريد أن أفسد هجرتي، أريد الحديث الذي سمعتَه من الرسول عليه الصلاة والسلام]] فأخذ الحديث وهو واقف، ثم ركب ناقته وانصرف.
أما سعيد بن المسيب فيقول عن نفسه: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد كنت أسافر الثلاثة الأيام بلياليهن في طلب حديث واحد]] ولذلك بارك الله في علمهم وجهدهم، رغم أنه لم يكن عندهم ما عندنا من الوسائل الحديثة: كالسيارات، والهواتف، والمطاعم الشهية، والمراكب الوطية، والملابس الهنيَّة المَرِيَّة، ولكن قلَّ التحصيل، ونشكو حالنا إلى الله الواحد الأحد.
يذكرون عن القفال - أحد علماء الشافعية - أنه سافر لطلب العلم، وكان عمره أربعين سنة، فلما مشى في الطريق، قال له الشيطان: "كيف تطلب العلم في الأربعين؟ - والشيطان يوسوس - فرجع من الطريق، ولما رجع مرَّ برجل يعمل على سانية، والساقية وكان الرجل يُخرج الماء من البئر، وقد أثر الرشا والحبل في الصخر، فقال القفال بعدما اعتبر بتأثير الحبل في الصخر مع المداومة:
اطلب ولا تضجر من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
قيل لـ عامر الشعبي وهو عالم جليل: " بم طلبتَ العلم؟ قال: بصبر كصبر الجمال، وببكور كبكور الغراب "، يبكر في الصباح مثل بكور الغراب، من بعد صلاة الفجر يطلب العلم، ويصبر كصبر الجمال في طلبه حتى حصله.
كم سافر الإمام أحمد؟ دخل أكثر من ثلاثين إقليماً في طلب الحديث، مشياً على رجليه، معه بُقْشَة فيها خُبْزُه من شعير وملح، دخل خراسان، ومدنها: سمرقند، وبخارى، وتركستان، وطشقند، والسند، وأطراف الهند، وأطراف أفغانستان -على ما يُنقَل في سيرته- ودخل مصر والعراق، والحجاز، وذهب إلى الشام، ثم دخل اليمن، وطاف الأقاليم، حتى قال بعضهم: " لو جُمِعَت سَيرته، أو المسافات التي سارها لطوقت الدنيا ".
كان يمشي ليل نهار، ذهب إلى عبد الرزاق في صنعاء يطلب العلم منه، فوفقه الله بـ عبد الرزاق وهو يطوف عند البيت، فقال يحيى بن معين: " يا أحمد! هيا بنا، هذا عبد الرزاق قد حضر نأخذ العلم منه ونعود، قال أحمد: أنا خرجت لله، وأريد أن يعود عبد الرزاق إلى صنعاء؛ لأذهب إليه ولتكون سفرتي في سبيل الله، فلما عاد عبد الرزاق إلى صنعاء، سافر الإمام أحمد إليه، وانتهى ما لدى الإمام أحمد من شرابه وطعامه حتى قال: عملت حصَّاداً في بعض الأيام لنفقة بطني " عمل حصاداً يحصد الزرع لما انتهت نفقته في طلب الحديث، وعاد بحديث كثير، وترك لنا: المسند، الذي لو كُتِب بالدموع أو بالدماء ما أنصف.