أيها الإخوة الكرام أيها الأماجد! يا حملة لا إله إلا الله! كانت الجزيرة قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام جزيرة فقيرة مظلمة, لكل قبيلة صنم من الأصنام, لدوس في بلاد زهران صنم, وللأزد في هذه المنطقة صنم, ولقريش صنم, ولمذحج صنم, وللأوس والخزوج صنم, ولكل قبيلة خشبة أو شجرة أو صخرة يعبدونها من دون الله, سلب ونهب, زنا وكذب؛ غش وخيانة, كان الأخ يقتل أخاه على مورد الشاة, كانوا يرعون الغنم بوثنيتهم ويتذابحون على موارد المياه.
فلما أراد الله أن يحيي هذه الأمة أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام, فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ يقول سبحانه ممتناً على الناس: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فلا إله إلا الله! كم لرسالته علينا من منة! أتى الإنسان وهو لا يعرف كيف يتوضأ, ولا يستنجي, ولا يتطهر, ولا يغتسل من الجنابة, ولا يقلم أظفاره, ولا يأخذ من شاربه, ولا يتطيب ولا يلبس الجميل, فجعله مؤدباً جميلاً محبوباً إلى الله, وقد كان الإنسان يقتل ابنته, ويزني, ويشرب الخمر, ويأكل الربا, فهذبه وحرم عليه هذه الأمور.
أتى الإنسان, وكان كالبهيمة فعلمه أن هناك جنة وناراً وحسابا ًوميزاناً وصراطاً, وكان الإنسان ظالماً لا يعرف شيئاً, فعلمه آيات الله والحكمة حتى أحيا هذه الأمة.
بعد خمس وعشرين سنة استولى الصحابة على العالم, اثنتان وعشرون دولة يحكمها عمر بن الخطاب وهو في المدينة , وكان عليه ثياب من الصوف مرقعة ممزقة فيها أربع عشرة رقعة, أرسل ملك فارس الهرمزان إلى عمر ليفاوضه, فكان الهرمزان معه وفد يلبس الذهب, كان في هم وغم كيف يقابل عمر , وكيف يستطيع أن يتكلم إلى عمر؟ فلما وصل إلى المدينة قال: أين قصر عمر؟ قالوا: لا قصر له, قال: أين حرسه؟ قالوا: لا حرس له, قال: أين مكانه؟ قالوا: هذا بيته.
فأتوا فإذا بيته من طين, فطرق على الباب فخرج ابن لـ عمر صغير, قال: أين أبوك؟ أين الخليفة؟ قال: أبي خرج من عندنا, وقد يكون نائماً في المسجد.
كان عمر ينام في الليل والنهار ساعتين, تقول له زوجته: لماذا لا تنام في الليل, تترك النوم في الليل والنهار, قال: [[لو نمت في الليل؛ لضاعت نفسي، ولو نمت في النهار؛ لضاعت رعيتي]].
قال ابنه: التمسوه في المسجد, خرج إلى المسجد فلم يجده, فبحث عنه مع بعض الصحابة فوجدوه نائماً تحت شجرة, أخذ حجراً تحت رأسه, وأخذ بردته الممزقة وعصاه بجانبه, قال: الهرمزان وهو يهتز: هذا عمر قالوا: هذا عمر , قال: هذا الخليفة؟ قالوا: هذا الخليفة, قال: هذا أمير المؤمنين؟ قالوا: هذا أمير المؤمنين, فقال وعمر نائم: "حكمت فعدلت فأمنت فنمت" يقول حافظ إبراهيم شاعر مصر:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
رحم الله عمر , ورحم الله أولئك الملأ والأساطين الذين فتحوا الدنيا بالدين, يقول عمر في الإخاء: [[والله إنه ليطول عليَّ الليل إذا تذكرت أخي في الله فأتمنى الصباح فإذا أصبح الصباح، عانقته شوقاً إليه]] وورد في ترجمة عمر: "أنه تذكر معاذاً في الليل, ومعاذ يصلي معه دائماً, فما نام عمر من الشوق حتى صلَّى الفجر حتى قال: أين أخي معاذ؟ قال: أنا عندك, فعانقه وبكى! ".
هؤلاء قوم صفَّى الله قلوبهم بالإخاء, وجعلهم الله عز وجل ورثة الأرض, وليس ببعيد أن نشابههم عندما نعرف الدين, ومتى ما فقهنا كتاب الله, ومتى ما علمنا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام, يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للرسول عليه الصلاة والسلام: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] معنى الآية: والله الذي لا إله إلا هو, لو أنفقت الدنيا ذهبا ًوفضة, ما ألفت بين قلوبهم, ولا آخيت بينهم.
ونحن نرى اليوم أن من يصلح صلحاً على غير الدين, وعلى غير لا إله إلا الله, أن الله يجعل صلحهم دماراً وخراباً, ويجعل اجتماعهم فتنة, ويجعل عزتهم ذلة, ويجعل غناهم فقراً, لأنهم اجتمعوا على غير طاعة الله.
نرى القبائل يوم تتحزب على الشر والباطل والظلم؛ جعلها الله قبائل منكوبة, قبائل مهزومة فاشلة, لأنها تآخت على غير تقوى الله.