ثم قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ما أحسن هذا التوجيه! وما أحسن هذه التربية للدعاة والخطباء ولطلبة العلم والعلماء من تربية! {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ما هو القول اللين؟ كأن معنى الخطاب: لا تجرحا شعور فرعون، احذرا أن تشددا عليه أو تشتماه، فتأخذه العزة بالإثم فلا يسلم، ولا يؤمن، لا تؤذيانه، خذاه بالتي هي أحسن، بقول لين هين سهل قريب، قال سفيان الثوري: [[أتدرون ما هو القول اللين؟ قالوا: لا، قال: كنِّه]] أي: ادعه بالكنية، وكنية فرعون كما يقول ابن كثير: أبو مرة -مرغه الله على وجهه في النار- فلما أتى موسى يتكلم معه، قال: يا أبا مرة، هكذا قال أهل التفسير، ولذلك قال الشاعر اليمني:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب
كذاك أدبت حتى صار من أدبي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
يقول: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] وورد أن القول اللين أن يقولا له: سوف يمتعك الله بالشباب والصحة والملك إذا آمنت وأسلمت.
وسبحان الله! ما أحسن القول اللين! فهو الذي يقود القلوب، وأحسن من فعل هذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فهو الذي امتثل أمر الله في دعوته، فكان قوله ليناً، وكلامه ليناً، وفعله ليناً، حتى يقول الله عز وجل له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
والقول اللين لا يأتي إلا بخير، وفي الصحيح مرفوعاً: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه} والصلف والبذاءة لا تأتي بخير، والسب والشتم والتجريح لا يأتي بخير، ونحن في غنى عن هذا الكلام، وإن لم يجر لك ضرراً لم يأت لك بمنفعة، لكن عليك أن تبين سبل الهداية كما بينها صلى الله عليه وسلم.
لا يزال في نفسه مخافة؛ لأنه ما زال قلبه يرجف من فرعون، يعرف أنه ساكن في مصر في العاصمة، ومعه جيش جرار، ومعه جلادون وقتلة، ودولة كاملة، وهيلمان وسلطان وصولجان {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45].
وما كان مقصوده تعريف الله عز وجل فهو يعرف، لكن يريدان الاستنصار بالله على فرعون، وأصبحا يتكلمان الآن سوياً، فالضمير للمثنى الآن {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يقولان: إن فرعون مجرم وفاسد، ودكتاتوري يذبحنا كما تذبح الشياة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه:45] أن يستعجل في العقوبة، نخاف من هذا المجرم ألا نستطيع أن نتكلم بين يديه حتى يتبع السيف إلى رءوسنا فيبترها {أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يتجاوز في العقوبة {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] قال الله عز وجل: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] سبحان الله! أنا قريب، أنا معكم، ناصية فرعون وملكه وجنده بقبضتي، أقصمه متى شئت.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
سبحان الله! قوته تغلب كل قوة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ولا يتحرك فرعون إلا بإذني، ولا يتصرف إلا بقدري وقضائي، فلن تمسكم منه ذرة من الأذى إذا حفظتكم أنا، ولذلك في سنن الترمذي والمسند بسندين حسنين قوله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في الحديث الطويل: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].