الإكثار من الذكر

كان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان: أن يكثر من الذكر والتبتل والاستغفار والمناجاة والدعاء، فإنها حياة القلوب.

كان يواصل الصيام وينهى الصحابة عن الوصال، فيواصلون ويقولون: يا رسول الله إنك تواصل، أي: مواصلة الليل بالنهار، قال: {إني لست كهيئتكم} وفي رواية: {لست بمثلكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين} وفي رواية: {إن ربي يطعمني ويسقين}.

أورد هذه الروايات ابن القيم في زاد المعاد بألفاظها، قال: واختلف أهل العلم على قسمين: قوم يقولون: إنه طعام حسي وماء معروف يسقى به عليه الصلاة والسلام ويأكل، وليس هذا بصحيح؛ لأنه لو كان كذلك لما كان صائماً عليه الصلاة والسلام، ولو كان كذلك لما قال: {إني لست كهيئتكم} ولو كان كذلك لما كان له ميزة عليه الصلاة والسلام عليهم في الوصال.

والصحيح أنه يطعم ويسقى بالمعارف التي تفاض على قلبه من الواحد الأحد، من لذة المناجاة، وحسن الذكر، وعذوبة دعائه لمولاه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وبما يغدق على روحه، ويسدل على قلبه من ذكر ودعاء وتبتل يشبع ويروي، ولذلك ترى بعض الناس إذا سروا بأمر تركوا الطعام والشراب، وإذا سروا بأمر نزلت دموع الفرحة من خدودهم.

طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني

فبعض الناس لولهه ولكثرة سروره وفرحه يستعيض به عن الطعام، حتى قال الأول وهو يتحدث عن لذة قلبه بقدوم قادم، أو بكلام حبيب، أو بمناجاة صاحب:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد

لها بوجهك نورٌ يستضاء به ومن حديثك في أعقابها حاد

إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق القدوم فتحيا عند ميعادي

فكأنه عليه الصلاة والسلام لفرحه بعبودية ربه كان من أسر الناس قلباً، ومن أشرحهم صدراً، يستعيض عن كثرة الطعام والشراب بهذا، ولذلك يقول الأندلسي أبو إسحاق الألبيري لابنه في قصيدته الرائعة المبكية الحارة التي توجه إلى كل شاب، وهي من أحسن القصائد والوصايا، يقول:

فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا

يقول: قوت القلب، وغذاء الروح هي جواهر المعاني من الآيات والأحاديث، وليس بأن تأكل وتشرب؛ لأن هذا للجسم، يقول:

تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا

وتدعوك المنون دعاء صدق ألا يا صاح أنت أريد أنتا

إلى أن يقول:

فواظبه وخذ بالجد عنه فإن أعطاكه الله انتفعتا

فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا

فكان عليه الصلاة والسلام يتغذى بالذكر والتهليل والتكبير والتسبيح والاستغفار، وبكثرة المناجاة، والدعاء، فأدعوكم -أيها الأخيار والأبرار- إلى استغلال هذا الشهر في كثرة الذكر.

وننبه على الظاهرة التي نسأل الله أن يجعل مكانها خيراً ومبرةً ورحمة، ظاهرة استغلال النهار في النوم؛ فإنها وجدت عند الصالحين بكثرة، فتجد الصالح من الصائمين يقضي ساعات يومه في النوم، فما كأنه وجد للجوع حرارة، ولا للظمأ مشقة، ولا وجد لمعاناة العبادة كلفة.

فأي حياة هذه الحياة في رمضان، إذا نام من الصباح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ومن العصر إلى الغروب، فما هو مفهوم الصيام إذاً في حقه، ثم أمضى الليل في السهر، وظاهرة تغيير برنامج المسلم في رمضان ليست بمحمودة، بل على المسلم أن يكون على وتيرته، وما هو الداعي إلى أن يغير وقته لهذا الوقت، فيجعل وقت المناجاة والذكر وحرارة الجوع، ومشقة الظمأ رقاداً ونعاساً ونوماً، فأين معنى الصيام؟!

يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فأعظم مقاصد الصيام التقوى، والتقوى تحصل بأن تعيش ساعات ودقائق الصيام لتتعامل معه، فما الفرق بين المفطر الذي ينام النهار كله، وبين الصائم الذي ينام النهار كله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015