ومنها صلاة العصر في بني قريظة, وهذا فيه لأهل العلم كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة} فكان فهم الصحابة لهذا الخبر على قسمين:
قسم يظنون أنه يريد صلى الله عليه وسلم العجلة، ولكن ليس على ظاهر الخطاب، فصلوا العصر في أماكنهم أو في الطريق، وذهبوا إلى بني قريظة، وقسم أخروا صلاة العصر حتى صلوها في بني قريظة؛ لأنهم فهموا أن المراد الظاهر.
ونستفيد منه فوائد:
أولاً: أن الخلاف وارد في هذه الأمة، وأن الخلاف في الفروع جائز، وأنه رحمة واسعة، كما يقول ابن تيمية: الإجماع حجة قاطعة، والخلاف رحمةً واسعة، وأن الخلاف يجري حتى بين الصحابة، ولا يشنع أحدٌ على أحد، ولا تتقاتل الأمة إذا اختلفت في وضع اليدين على الصدر، أو وضعها تحت السرة، فلا يقوم أحدٌ فيدعو أدبار الصلوات أن الله يجعل كيدهم في نحرهم ويدمرهم، ويجعلهم غنيمة للمسلمين؛ من أجل أنهم وضعوا أياديهم تحت السرة، لا يكون هذا، وأن أحدهم إذا قام فرأى أنه يجهر بالبسملة لا يخرج من الملة والدين، بل يبقى من المسلمين إن شاء الله.
فهذه مسائل فرعية يُختلف فيها دائماً وأبداً، وأنت لا تنازع كثيراً، إذا رأيت إنساناً اقتنع بهذا الفكر في الفرعيات، فاتركه وادع الله له، والمسألة في سعة والحمد لله.
أما أن يحمل بعضنا على بعض الضغائن في هذه الجزئيات، فهذا من قلة الفقه في الدين، وقلة العلم، وهذا الوارد والمعروف إن شاء الله.
ولذلك قد تشغل المجالس ويرتفع الصوت، ويتهاجر الأحباب؛ على مسألة من يبدأ به في المجلس بالفنجان، هل من وسط المجلس أو من آخره؟
وقد يأتي بعض طلبة العلم -إذا سميناهم طلبة علم- فيختلفون، فبعضهم يقول: تدور الأرض حول الشمس، وبعضهم يقول: الأرض ثابتة، فيقومون يقتتلون، وبعضهم يعض بعضاً ويتقرب بدمه إلى الله، يقول الشيخ/ علي الطنطاوي: الله لا يسألنا يوم القيامة ولا يسألنا منكر أو نكير، هل الشمس تدور أم الأرض تدور، فهذه من ترف المسائل، فنحن لسنا من علماء الهيئة، فالله يعلم بها، نشهد بأن الله الذي خلقها، وأنه الذي خلق الشمس ولا تزيدنا هذه المسائل إلا إيماناً، سواء تدور ثلاثين مرة أو واحداً وثلاثين مرة فالحمد لله والشكر، ولا ندخل أنفسنا في هذه المسائل.
ولذلك ذكر أن بعض الناس نزل في بادية عند عوام وعندهم عرس في خيمة -أخبرنا بهذا ثقات، والثقات كثروا في هذا العصر- فأخبرنا فقال: حضرنا هذه الوليمة، وقلنا لبعض هؤلاء تكلم في الحاضرين، قال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سمعتم المقالة الآثمة التي صدرها الكفار أنهم يقولون: إن الأرض تدور، ووالله الذي لا إله إلا هو إنها لا تدور، ثم أخذ يورد الحجج، من ضمن الحجج القوية التي أوردها يقول: منذ أن خلقني الله في قرية بني فلان ما دارت القرية، فانظر إلى هذا الرد العلمي الوجيه القوي، كيف يرد هذا الرد.
المسألة تطول، لكن الشاهد من القصة أن الخلاف وارد.
والفائدة الثانية: من الصلاة عند بني قريظة أن من أخر الصلاة لعذرٍ وجيه، من نوم أو لأنه ظن أن الوقت معه فبان خلاف ذلك، فإن شاء الله ليس ملاماً، أما من أخرها بدون عذر وخرج وقتها فإنه قد أبطل وقتها وأبطل أداءها، حتى قال بعض أهل العلم: إذا أخرها متعمداً حتى خرج وقتها، فلا يقضيها؛ فإنه ذاك الوقت بلغ درجة الكفر، فالمسألة مسألة وقت، لكن الصحابة تأولوا في هذه المسألة رضي الله عنهم وأرضاهم.