يقول ابن عمر رضي الله عنه فيما رواه البزار والبيهقي: {نزلت سورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرُحِّلَت، ثم قام فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة، وودعهم عليه الصلاة والسلام، وبكى وأبكى، وقال: يا أيها الناس! إنكم مسئولون عني غداً، وأنا مسئول عنكم، فما أنتم قائلون؟ وكانوا مائة وأربعة عشر ألفاً -وقفوا وعيونهم وأبصارهم وأسماعهم وقلوبهم ودماؤهم تجري بحبه عليه الصلاة والسلام، مائة وأربعة عشر ألفاً، من أنحاء الجزيرة العربية، وقفوا ينظرون إليه وهو يتكلم إلى التاريخ، ويتكلم إلى الدهر، أعلن التوحيد وندد بالشرك، وأقام حقوق الإنسان، وألغى التمييز العنصري، وألغى الربا، وقام بخطبة عظيمة، ثم في الأخير استثارهم وأبكاهم، وجعلهم في موقفٍ صعب، وفعل كذلك في يوم عرفة على صعيدٍ واحد، وهم في الأردية البيض، أردية الكفن- وأخذ يقول ويرفع سبابته: إنكم مسئولون عني غداً وأنا مسئول عنكم، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد} فبكى أبو بكر الصديق وبكى بعض الصحابة، وقالوا: أجله عليه الصلاة والسلام نُعِي إليه.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
المعنى: أنت يا رسول الله! قدمتَ الرسالة، وأنهيتَ مهمتك، وأديت دورك في الحياة، والآن نقبض روحك، لنوفيك أجرك غير منقوص، {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4].
الآن انتهيتَ بعد ثلاثة وعشرين، كفيت وعلَّمت، قدمت كتاباً وسنة، قدمت منهجاً للعالم، أخبرت الأمة بالشريعة الربانية، والآن نقبض روحك.
وبكى الناس، وأنزل الله بعدها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
دخل العرب في دين الله أفواجاً العام التاسع من الهجرة، وهي عام الوفود؛ لأن قبائل العرب عقدت اتفاقاً فيما بينها، فقالوا: ننتظر حتى إذا انتصر على قبيلته قريش دخلنا معه، وإذا انتصرت قريش عليه، كنا مع قريش، يظنون أن المسألة لعب كرة، منتخب ومنتخب، وفريق وفريق، ولا يعلمون أن الله عز وجل مع رسوله، لا يعلمون أن الله عز وجل أرسل رسوله بجيش جرار، يوم فتح مكة، وقال له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح:1 - 3].
فلما انتصر صلى الله عليه وسلم ورأوا انتصاره على قريش دخلوا في دين الله، فكانت القبيلة تسلم في يوم واحد، وهذه مسلمة الفتح؛ لأن إسلامهم سهل، والذي يسلم سهلاً يخرج سهلاً.
أما إسلام أبي بكر فهو إسلام من جنس آخر، وإسلام العشرة المبشرين بالجنة جاء في وقت التعذيب والمحنة، في وقت الفقر والجوع، فجعلهم الله من المبشرين بالجنة.
وترى بعض الناس وقت الرخاء، إن أعجبه الوضع وكان مرتاحاً دخل وصلى وخشع في الصلاة وقرأ القرآن، لكن إذا أتته هزات أرضية أو عواصف رملية {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
وبعضهم إذا مرضت ابنته يتسخط على الله!
ذكر لنا بعض المشايخ، وهو ثقة: أن عامياً من بعض الناس، يقول: كان لجاري سبع بنات وعندي بنت واحدة اسمها هيلة، فمرضت هذه، فكان يدعو الله أن يرزقه بنتاً، أو يرزقه ابناً، فرزقه الله هذه البنت، وصاحب الوديعة له أن يرتد الوديعة متى شاء، فهو المعطي، وهو الذي يأخذ، وهو الذي يجعل هذا عقيماً، وهذا ولوداً، ويرزق هذا بنات، وهذا بنيناً، وهذا بنيناً وبنات، فمرضت هذه البنت، وليس لديه غيرها، فأخذ يبكي ويقول: يا رب! فلان عنده سبع بنات، وتأخذ بنتي، ثم ذكر: أنه خرج من الباب، فأخذ ينظر في السماء، ويقول: يا رب! ما وجدتَ غير هيلة لتأخذها؟! سبحان الله! ومن الذي خلقها؟! ومن الذي صور وأعطى غير الله الواحد الأحد؟!
فبعض قبائل العرب دخلوا جملة في الدين، ولذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يعد لهم حساباً كثيراً، فمشايخ القبائل في عهده صلى الله عليه وسلم دخلوا في آخر المطاف الإسلام، كان يعطي الواحد منهم مائة ناقة، أعطى الأقرع شيخ تميم: مائة، وصفوان: مائة، وأبا سفيان مائة، فأسلموا بشيء مادي، ولذلك لما أتت الدائرة في حنين فروا أول الناس، وهربوا وتركوا رسول صلى الله عليه وسلم في المعمعة، وكانوا سبباً في الهزيمة في أول المعركة، وإلاَّ فقد انتصر صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم عندما رآهم الناس هربوا هربوا معهم، حتى أن بعض الأنصار هربوا، وهربت الجمال والخيول، وأخذ أبو سفيان يقول: الآن بطل السحر يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحراً، حتى ذاك اليوم، وأخذ صفوان بن أمية يقول: لا يرد الناس اليوم إلا البحر، يقصد البحر الأحمر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق معه إلا ستة، وهم الستة الذين أسلموا لأول مرة، أي أن الإسلام القوي الممتاز كان في الذين أعلنوا في وقت القوة ووقت العنف والشدة فوقفوا معه، فأخذ السيف وجرده، وقال: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} والحقيقة: عند المؤرخين أنه صلى الله عليه وسلم هزم ألف مقاتل وحده، كان قبله ألف، من قبائل هوازن، وقائدهم مالك بن عوف النصري نزل مسربلاً بالحديد، يقول: فقلت له:
فقلت لهم ظنوا بألف مدججٍ سراتهم في الفارسي المسردِ
كان معه ألف مقاتل في القلب، لأن هوازن معها ميمنة وميسرة وقلب، فنزل صلى الله عليه وسلم فضرب القلب فهزمه، وهزم الجيش كله {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84].
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها