روى الحاكم بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا أدري ذو القرنين نبيٌّ أم لا، ولا أدري تُبَّع نبيٌّ أم لا، ولا أدري هل الحدود كفارات لأصحابها أم لا} والله عز وجل أخبر رسوله بهذا الأدب، فقال له: (وما يدريك) (وما أدراك) قال بعض الفضلاء -من باب الفائدة-: "إذا قال الله: (وما أدراك)؛ فسيخبره بالجواب بعد هذا الاستفهام، وإذا قال: (وما يدريك)؛ فلن يخبره بالجواب"، قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب:63] فلن يخبره عن الساعة، وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} [القارعة:1 - 4] فأخبره.
فإذا جاء في القرآن: (وما أدراك) فانتظر الجواب، فإنه سوف يأتيك، وإذا قال: (وما يدريك): فلا تنتظر الجواب.
سئل علي بن أبي طالب عن مسألة، فقال: [[لا أدري، وما أبردها على قلبي]] وقال: ابن سيرين: [[إذا فات العالم كلمة: (لا أدري) فقد أُصِيبَت مَقاتِلُه]].
والناس في هذه المسألة أيضاً طرفان ووسط:
- منهم: طلبة علم يقولون في كل شيء: لا أدري، من باب الورع البارد.
يقال له: كم أركان الإسلام؟ قال: لا أدري.
يسأله العامِّي: كم أتمضمض في الوضوء؟ قال: لا أدري، الله ورسوله أعلم! قلنا: ورَعُك باردٌ سامِجٌ ميِّتٌ، أنتَ كتمت العلم بهذا الورع المُهَلْوِس الموسْوِس.
- وبعضهم: قابلهم، فأفتى في كل مسألة، اسأله في كل مسألة، لن يقول: لا أدري، بل يدخل في كل مسألة، ويجيب على كل معضلة، مسائل لو عُرِضت على عمر رضي الله عنه وأرضاه لجمع لها أهل بدر، ومع ذلك يفتي بطلاقة، ويتحدث بقوة، ويشرح ولا عليه! لأنه يقول: إذا قلتُ: لا أدري انكسر جاهي مع الجماعة، والذي عقد رءوس الحبال يحلها، نفتي الآن، وإن شاء الله نبحث عن المسألة، وتجده أحياناً يقول: للعلماء فيها أقوال: قول يقول كذا، بلا أدلة؛ لأنه يدري أنه لا يخرج من الأقوال، لكن إذا قلتَ له: ميز الضعيف من القوي؛ فلن يجيب.
- ومنهم قوم توسطوا -أثابهم الله- فأفتوا فيما يعرفون، وسكتوا عما لا يعرفون؛ وهم أهل الجادَّة، وأهل الخوف من الله.
ثانيها: أما المسائل التي عرضت عليه عليه الصلاة والسلام فكان موقفه منها ثلاثة مواقف، جوابه على ثلاثة أضرب:
- جواب الحكيم.
- وجواب المطابقة.
- وجواب الزيادة.
فجواب الحكيم: أن يُسأل عن مسألة، فيترك المسألة ويأتي بجواب آخر لسؤال آخر، وهذا يسمى عند أهل البلاغة: جواب الحكيم، قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] فما مكان الجواب؟ ما هو شرح السؤال؟
Q يقول كفار مكة لمحمد عليه الصلاة والسلام: "كيف الهلال يبدو صغيراً، ثم يكبر يكبر، ثم يعود صغيراً؟ هذه أسئلة أطفال الروضة، أتى كفار مكة يقولون: يا محمد! ما للهلال يبدو صغيراً صغيراً، ويكبر ويكبر، ثم يصغر يصغر حتى ينتهي؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم مكلف أن يجيبهم عن هذا السؤال؟ لماذا لم يسألوا عن فائدة الهلال؟ وعن المصلحة من الهلال؟ فأورد الله السؤال، ولكن لم يورد الجواب على السؤال، قال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] وهو معروف سؤاله، ثم أجاب بجواب لسؤال آخر، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
فائدة الهلال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
وكان عليه الصلاة والسلام ربما أجاب بالمطابقة، يسأله السائل، فيقول: نعم، يسأله السائل فيقول: لا.
وربما زاد على سؤال السائل، يقول السائل والحديث عند الخمسة بسند صحيح: {يا رسول الله! إنا نركب البحر، وليس معنا إلا الماء القليل، فإذا توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ -اسمع الجواب- قال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته} هذه أرقى أنواع البلاغة، التي لا يصل إليها الإنسان، هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
فسأله عن الماء، فأفتاه بالماء وأفتاه بحل الميتة؛ لأن مَن جَهِل الماء، فمن باب أولى أن يجهل حكم الميتة، وقوله: {هو الطهور ماؤه} ظرَّفها بمعرفتين، والتظريف بمعرفتين يقتضي الحصر، كقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [المنافقون:4] {هو الطهور ماؤه الحل ميتته} أربع كلمات أوخمس أو ست، جَمَعَت معاني البلاغة، ولذلك شرحها بعض العلماء في عشرات الصفحات، وعجزوا عن شرحها.
هذه مسألة.