يقول أهل العلم: من (لا إله إلا الله) اشتقاقات: الحسب، والتوكل، والمحبة، والقصد، والإرادة.
فأما الحسب: فنطق بها إبراهيم فأصبحت النار هباءً منثوراً، وأصبحت باردة.
كيف الحسب؟ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، والحسب نطق بها موسى ففجر الله له البحر، اضطرب موسى ووراءه فرعون بستمائة ألف، وقيل: بأكثر، وأمامه البحر، فالتفت؛ فقال هارون: نغرق اليوم! قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] بسم الله، حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فانفجر البحر.
سبحان الله! الماء يغرق ولكن بحسبنا الله ونعم الوكيل لا يغرق.
والنار تحرق ولكن إذا أتت (حسبنا الله ونعم الوكيل) لا تحرق، فإبراهيم ما أحرقته النار؛ لأنه التجأ إلى الواحد الغفار، وموسى ما غرق في البحر؛ لأنه التجأ إلى البر الرحيم.
يدخل أحد الخوارج على أحد الصالحين بالسيف، وأراد هذا الصالح أن يضحك على هذا الخارجي، فـ الخوارج يكفرون الناس، مسلم يصلي ويعبد الله ويقرأ القرآن في البيت؛ فدخل الخارجي عليه بالسيف، يقول للصالح الذي يبكي من القرآن وهو فاتح للمصحف من ربك؟ قال: ربي البر؟ أي: الله، البر الرحيم، لكن الخارجي يتصور أنه يعني الصحراء!
قال: ومن نبيك؟ قال: أميٌّ، أي الأميٌّ صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً منهم} [الجمعة:2] فقال: حق دمك.
قال: أسألك بالله أن تنتظرني حتى أتشهد، ثم دعا الناس وقال: اشهدوا عليه، أجبته بجواب ما فهمه، هل يستحل دماء المسلمين بهذا الجواب؟ حسيبك الله يا خارجي، لا تفقه من الدين شيئاً وإنما هذا استطراد.
قال: شهادة أن لا إله إلا الله، ومنها الحسب (حسبنا الله ونعم الوكيل) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [[حسبنا الله ونعم الوكيل! قالها إبراهيم لما أُلقي في النار؛ فجعلها الله عز وجل برداً وسلاماً]].
كيف قالها؟
وضع في المنجنيق؛ فلما ركب في المنجنيق وأصبح في الهواء -تصور إبراهيم عليه السلام إمام العقيدة وأستاذ التوحيد، وشيخ الإسلام في الهواء بين الأرض والمنجنيق والنار- أتاه جبريل في الجو في موقفٍ حرج ليس أحرج منه موقف وقال: يا إبراهيم! ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
مد الجسور إلى الرحمن معتمداً واشدد يديك فإن الرب برهان
والزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يقولون للإمام أحمد إمام أهل السنة، وهو يجلد بالعصا على رأسه ويمزع جسمه: كيف التوكل؟ قال: مثل إبراهيم: يأتيه الجنود والحرس والوزراء، يقول ابن خاقان: يا أحمد ويعرض عليه خدماته.
قال: لا أريد الخدمات.
أتريد شيئاً؟ قال: أريد الله.
صدق الإمام أحمد، ولذلك دكدك الإمام أحمد جيوش المعتصم ومن معه وانتصر، وهو وحيد وما هاب؛ لأن الله ثبته وكان معه.
فألقي إبراهيم في النار فكانت برداً وسلاماً.
أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في أحد، وقد أنهك أصحابه وأصبحوا جرحى، وقالوا: يا رسول الله! إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، قال الله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
يذكر عن علي بن أبي طالب وكان في الكوفة يقضي بين اثنين، تحت جدار، والجدار يريد أن ينقض -ويريد أن ينقض ليس من المجاز بل هو من الحقيقة، وهذا وصف الله بأنه يريد أن ينقض- قالوا لـ علي: يا أمير المؤمنين! الجدار يريد أن ينقض عليك.
قال: [[حسبنا الله ونعم الوكيل]].
وهي كلمة تقال للتوكل لا للتواكل، لا تأتِ وترم بنفسك من على عمارة مرتفعة، وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! نعم، ولكن رأسك سوف يكون مع الكفرة في الأرض، ولا تأت وتنام في الطريق، وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! هذا ليس من هذا.
فقام علي من المكان، فلما ذهب سقط الجدار مكانه، وسَلِمَ علي، وهذه كرامة من كرامات الأولياء إن صحت عنه.
وفي (لا إله إلا الله) محبة ذاقها الصحابة، فقد قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله عز وجل.
وفي (لا إله إلا الله) إرادة، فتعلق إرادة العبد بالله عز وجل حتى ما يراد إلا هو.
وفي (لا إله إلا الله) اعتماد، دخلوا على أبي بكر الصديق في مرض الموت، قالوا له: ماذا تشتكي؟ قال: ذنوبي.
لا إله إلا الله! أبو بكر يشتكي ذنوبه! فكيف بنا نحن المذنبين المقصرين؟
أبو بكر الذي ما وجد وقتاً ليذنب، من يوم أن أسلم وهو في قوة وفي جلاد، وسهاد، وجهاد، وعبادة وزهد، قدَّم دمه ودموعه ووقته رضي الله عنه وأرضاه، قالوا: ماذا تشتكي يا خليفة رسول الله؟
قال: أشتكي ذنوبي.
قالوا: ماذا تريد؟
قال: أريد المغفرة.
قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟
قال: الطبيب قد رآني.
قالوا: ماذا قال؟
قال: يقول: إني فعال لما أريد.
أتته ابنته عائشة وهو في سكرات الموت، فقالت: يا أبتاه -وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة إلى جنة عرضها السماوات والأرض- يا أبتاه! صدق الأول (تعني حاتم الطائي):
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها مغضباً، وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].
عفاء على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين مُعَرَّجُ
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
جمعنا الله بهم في دار الكرامة!
هذا الاعتماد على الله عز وجل، والتفويض إلى الله، والافتقار إليه، ولذلك جاء في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: أقرب الناس إلى الله أشدهم افتقاراً إليه.
وله قصيدة اسمها (الفقرية) يقول في مطلعها:
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
الفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
انظر إلى شعر ابن تيمية! شعر علماء، ليس كمثل شعر الشعراء، شعر عالم.
يقول: ابن دقيق العيد في بيت له:
واختلف الأصحاب في وجدنا فرجحوا نجواك وهو الصحيح
كأنه من متون الفقه! فـ ابن تيمية كان يجيد هذا، وشاهدنا لـ ابن تيمية أنه افتقر واعتمد على الله فنصره الله.
دخل الإسكندرية، فقالوا له: إن الناس قد جمعوا لك يريدون قتلك وذبحك، فنفخ في يديه -وكان شجاعاً صنديداً يركب الأهوال مثل الجبال، كان يدوس الرجال وهو فرد
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب يوم تلقاه وفي حشم
فنفخ في يديه، وقال: والله كأنهم الذباب.
دخل على الناصر قلاوون، فأصابت السلطان قلاوون حمى من ابن تيمية، رأى النجوم في النهار، علمه درساً في العقيدة لا ينساه، أراد أن يفترس ابن تيمية فافترسه ابن تيمية، كان قلبه قوياً، لماذا؟
كان ابن تيمية إذا صلى الصبح يبقى إلى الضحى يردد الفاتحة، ويستجلي أخبار ودرر وكنوز الفاتحة، كانت مصادرهم الكتاب والسنة، فقوي اعتمادهم وحسبهم وإيمانهم، وأصبح مصادر تلقينا أو بعضنا ما يلقى في الساحة من عفونات وأفكار البشر، فأصبحت ثقافتنا جامدة هامدة، ولا تجد هناك إلا قلة أعلنت توجهها وهم شباب الصحوة.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنَّا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
أعرابي يصلي في الصحراء، قالوا: لمن تصلي؟ قال: لله.
قالوا: هل رأيته؟
قال: البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وليل داج، أفلا تدل على السميع البصير؟!
هذا توحيد غرسه محمد صلى الله عليه وسلم، وأهل الدكتوراة كثير منهم شهاداتهم معلقة عندهم في البيوت عليها عشعش العنكبوت وما نفعتهم في الإيمان ولا في الحسب، ولا التوجه، ولا في المحبة، والإرادة.